أنفاسأكثر بلد عربي أحبّه الفلسطينيون ورغبوا في العيش فيه هو لبنان وذلك من خلال تجربتهم، مع ان هذا البلد لم يقدّم للفلسطينيين إلا النزر اليسير جداً من الحقوق المدنية والاجتماعية مقارنة ببعض الدول العربية الأخرى كالأردن وسورية والعراق. ولعل مناخ الحرية والازدهار الذي ساد لبنان في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان السبب في تعلّق الفلسطينيين بهذا البلد وانشدادهم إليه. ثم ان الفلسطينيين أنفسهم كان لهم شأن حيوي ومباشر في الازدهار اللبناني الذي بدأ فعلياً في سنة 1949 فصاعداً اي عقب النكبة مباشرة، ففي سنة 1948 و1949 تدفق على لبنان نحو 110 آلاف فلسطيني جراء سقوط فلسطين في أيدي الحركة الصهيونية. وهؤلاء حملوا معهم الملايين من الجنهات الاسترلينية، وهذه المبالغ المالية أطلقت ثورة اقتصادية ظلت تتردد آثارها حتى نهاية عقد الخمسينات تقريباً. وفي هذه الفترة قيّض للشتات الفلسطيني أن يشهد تأسيس اثنتين من أهم الحركات السياسية العربية وأبعدها أثراً هما: حركة القوميين العرب وحركة "فتح".

خضع الفلسطينيون اللاجئون الى لبنان لشروط قاسية جداً أناخت بكلكلها عليهم في اماكن إقاماتهم. فكان ممنوعاً عليهم الانتقال من مخيم الى آخر إلا بإذن، وممنوعاً عليهم السكن في بعض المناطق المحاذية للحدود الفلسطينية، وتسلطت عليهم المخافر، علاوة على رجال المكتب الثاني أيما تسلّط. لكن، في 1/1/1965 آفاق الفلسطينيون في لبنان على البيان الاول لـ"قوات العاصفة" وهو يعلن انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني. وكان هذا البيان إيذاناً بتحوّلات عاصفة سيشهدها لبنان والمنطقة العربية بأسرها. ومن الطبيعي ان يتجاوب الفلسطيني مع هذا البيان بفرح غامر، ولا سيما ان اسم حركة "فتح" كان يتردّد في أوساط اللاجئين منذ سنة 1960. ولا ريب في ان انطلاقة الكفاح المسلح منحت الفلسطينيين شعوراً بالزهو والإحساس بالكرامة، وتوقعوا ان تصبح قبضة المخافر عليهم أقل قسوة وأكثر تحناناً. وهذ الأمر لم يتسنى له الخروج الى الحياة بالشكل المنشود.

مرّ الفلسطينيون في لبنان بمراحل مختلفة من المستويات المعيشية تبعًا للأحوال السياسية، ويمكن تحديدها بأربع مراحل أساسية:

المرحلة الأولى: من عام 1948 إلى عام 1969
كانت المخيمات تخضع لقيود احترازية مشدَّدة، فكان يمنع على اللاجئين الانتقال من مخيم إلى آخر دون ترخيص، وكان محظورًا على أي مخيم التمدد خارج الإطار المكاني المحدد له. كما كان من المحظور بناء طابق ثانٍ فضلاً عن أن يكون سقف البيت من الأسمنت أو الحجارة، وبمقابل ذلك كانت خدمات الأونروا التعليمية والصحية أوفر بكثير مما هي عليه الآن.

أنفاسنهاية تشرين الثاني من العام الماضي انعقد في الكلية البحرية – ميرلاند في الولايات المتحدة الاميركية " مؤتمر انابوليس للسلام " .
الرئيس الاميركي جورج بوش افتتح المؤتمر بكلمة اكد فيها ان المؤتمر ينعقد لاطلاق مفاوضات على الفور بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي بهدف التوصل الى اتفاق سلام قبل نهاية ولايته ، أي قبل نهاية العام 2008 ." هذه فرصة تاريخية يجب استغلالها لتحقيق السلام والوصول الى هدف دولتين فلسطينية واسرائيلية تعيشان جنباً الى جنب في سلام بعد عقود من الصراع وإراقة الدماء ". هكذا حدد الرئيس الاميركي الهدف من عقد المؤتمر. لم ينس الرئيس جورج بوش في خطاب الافتتاح ان يدعو الى محاربة ما أسماه بالارهاب وتفكيك بنيته التحتية وان يحث اسرائيل على وقف توسيع المستوطنات .
نحن نقترب الآن من نصف عام على اختتام اعمال " مؤتمر انابوليس للسلام " ونقف على أعتاب منتصف العام 2008 ، ولا يبدو في الافق اشارت على أن نهاية العام الجاري سوف تجلب معها بشائر سارة في مسار الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي .
صحيح ان مؤتمر انابوليس قرر ان يبدأ الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي المفاوضات في الثاني عشر من كانون أول عام 2007 ، واعطى لهذه المفاوضات عاماً كاملاً بهدف التوصل الى حل دائم للصراع ، غير ان اوساطاً واسعة ، فلسطينة وعربية بالدرجة الرئيسية لم تظهر في حينه ارتياحاً للقرار او تفاؤلاً بالمستقبل لاعتبارات كثيرة ، منها ان المؤتمر جعل من خطة خارطة الطريق الدولية ، التي اقرتها اللجنة الرباعية الدولية في نيسان من العام 2003 ، مرجعية لهذه المفاوضات  .  معروف هنا ان الادارة الاميركية ماطلت طويلاً في اعتماد خارطة الطريق الدولية وعطلت اعتمادها قبل ذلك التاريخ ، حتى لا تشوش على خطط الغزو للعراق ، ولا تشوش كذلك على انتخابات الكنيست ، التي كانت آنذاك على الابواب . اعتماد خارطة الطريق الدولية ، كمرجعية لمفاوضات قرر مؤتمر انابوليس اطلاقها كان مؤشراً واضحاً على الاتجاه العام للحركة بعد المؤتمر في كل ما يتصل بالتسوية على المسار الفلسطيني – الاسرائيلي واحتمالات عدم وصولها الى الهدف المنشود . ذلك أمر طبيعي ، خاصة وان حكومة اسرائيل رفضت بعناد  التقيد بجدول زمني واضح ومحدد لانهاء مفاوضات الوضع الدائم قبل انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش وقبل نهاية العام 2008 . نهاية العام 2008 تحولت الى هدف مفتوح على اكثر من احتمال ، على احتمال التوصل الى اتفاق وعلى نقيضه كذلك ، ولأن المرجعية التي ارتضتها الادارة الاميركية للمفاوضات كانت خارطة الطريق الدولية ، وما تنطوي عليه من مقاربات امنية للمصالح الاسرائيلية لم تعد تخفى على احد ، فان نقيض احتمال التوصل الى اتفاق يصبح هو الارجح ، دون ان تتحمل كل من الادارة الاميركية وحكومة اسرائيل المسؤولية عن الفشل .

أنفاسإدراك الواقع يتطلب الإلتزام بتحليل محتواه, فالمسؤولية تتطلب أن يكون الإنسان إنساناً ملتزماً بالمعطيات الدالة على أهمية الحراك الاجتماعي وتفعيل الوعي بما ينسجم مع المتغيرات العالمية المرتبطة بوحدة المصير , فالإنسان الملتزم بالهموم والمطالب  الأساسية لإحداث نقلة متوافقة  مع المتغيرات الجارية في بنية العالم يدرك تماماً أهمية نشر ثقافة مؤثرة في إحراز التقدم اللازم والضروري لمجتمع التصق به وعاش بمعينته ومصنف من ارتباطه بالانتماء إليه , عليه الابتعاد عن المواقف المعادية لكل حركة فكرية وثقافية وكل حركة اقتصادية واجتماعية تتفق مع نظام التجديد السياسي والانسجام الإداري وسيادة المؤسسات وفقاً لما يفرضه منطق العصر الحديث . لن تغيير البنى المؤدلجة ضرورة ملحة لأنها تفتقر لنظام تجديد حقيقي وهي غير ميالة لتغيير منظورها عن الواقع المتجدد خارج إطار برامجها، فالعقلية المخادعة والمخالفة للوجود الحر ولآمن والمخدوعة بأوهام مترفة بالخجل والهروب من المواجهة تظل ملتصقة بالجمود القابع في صدور الحكام خوفاً من التبدل المؤثر على مراكزهم فيحرصون على الاتفاق غير الموثق والعقد الموثق بالتخاطر العقلي المرفق بالدعم المتبادل لجميع الأضاليل المنشورة مع الوهم المرتبط بوجودهم , لتهميش الثقافة وإبعادها عن القضايا الأساسية والمهمة لأن تجهيل الواقع السياسي يطرح حركة مخالفة ومعادية للتطور بما يؤثر وبشكل مدروس على جميع الفعاليات الملتزمة بالمهام المطروحة أمام تطور المجتمع لمواكبة المتغيرات الجارية في بنية العالم .
لا يهم في الثقافة الفاعلة من يقف مع أمريكا ضد روسيا ولا مع روسيا ضد الصين ولا مع الصين ضد اليابان ولا مع اليابان ضد أُروبا ولا مع أوربا ضد العرب ولا مع العرب ضد العالم ,المهم في الثقافة الملتزمة والإنسانية أن ترصد الأخطاء والانحرافات في مسيرة التطورات الإنسانية وتوضح أخطارها على بنية الشعوب وأن تدرك الأهمية البالغة الدقة في إعطاء الثقافة البديلة والإنسانية ، وأن تشرح التطورات المهمة والعمل لتعميمها في نفسية العالم . فالإنسان إما أن يكون مخلصاً لوجوده أو معادياً لهذا الوجود , إنها ثنائية قائمة ومتحركة مع المتغيرات شأنها شأن الذكورة والأنوثة وشأن الزواج والطلاق والسالب والموجب والحياة والموت , إنه واقع مفهوم بدون أن نحدد الفهم ومعروف بدون أن نحدد المعرفة . الثقافة تعمل في واقع يعيش في قلب التطور البشري هي القدرة المولدة للتحرر تكبر مع التحرر نفسه , وكل إعاقة لها تنزلق لتحقيق المآسي عند الشعوب والمراهنة على وقف حركة التطور أو التغيير المتعمد لمجراه وتوليد انحرافات هدامة في نظام العقل المرافق لها , فالإنكار المتعمد للحقوق والحريات يجري مع استمرار الخلط بين المصالح والمواقف وفق تقديرات غير موفقة في الحفاظ على المألوف .

أنفاسلكل حقيقة معنى في عصرها تنتشر لتأخذ أبعادها الكاملة في الوعي و السلوك الإنساني مهما تراكم عليها الزمن , فالأبعاد الخفية لمسائل موضوعة للتداول والتطبيق مرتبطة بمظاهر الحياة في واقعها الفاعل ضمن تأثيرات من الآراء والمقترحات الإنسانية , فكل منظومة مرتبطة بوعيها الخاص ومتأثرة بمضمونها التفاعلي , ومجمل الأبحاث والمقترحات والتأويلات تتبع وجودها كظاهرة في متناول الوعي والممارسة مدرجة لتأمين واقع مرتبط بمضمونها مؤسس ضمن منظومة بشرية ناهضة بواقع تاريخي يعطيها القدرة والإمكانية لأن تكون رائدة في تعميم مضمونها على الواقع البشري .
واقع اتصف بظهور تجربة معينة وضعت كاحتمال أساسي لإنقاذ العالم من ارتباطه بالمشاكل العامة والعالقة في بنيته السياسية والاجتماعية وغيرها يمكن أن تكون معيقة لنموه وتغيير مضمونه , وتزايد العجز المتراكم في بنيته الناشئة عن نمطية إيديولوجية أخذت بالتراجع أمام فكر انقلب على مضمونها نظراً لعدم مواكبتها لمسائل الوجود المتغيرة والأساسية , فالحلول القادرة على إحداث نقلة نوعية غير قابلة للتراجع ضمن بنية اجتماعية واقتصادية متوافقة مع مضمونها , فالمشروع السياسي القائم على إحداث وجود مرتبط به كأرضية قابلة للتراكم والبناء عليها يمكن أن يزيد الوعي المتفاعل معها بشكل تجديدي ويهجر وعي محدد بنظريات مسبقة الصنع مجهزة لتغطية نظام الوعي بمضمنها السياسي يمكن أن يرافقه واقع مضاد يعمل لإفشال هذه المضامين ويمنع جريانها من تعميق مجراه لأن وجوده الفاعل من خلال تأثيره يمكن أن يهدد البناء القادر لإنشاء دولة بمفاهيم متطورة ومبنية لتأمين استمرارها الحيوي في الوجود دولة تبتعد في وجودها عن ارتباطها بمنظومة فكرية أو مؤثرات شخصية تؤطر الدولة في علاقة معها أو تنشئ دولة بناء على مقياس الشخصية الخاص بما يهدد زوال ال
 دولة بزوال الشخصية المرتبطة بها عندها يقوم المجتمع على تهديم نفسه ,
وعندما تعمل الدولة على حبس العقل ضمن أطار ما وصلت إليه وما تحلم به يظهر الواقع السياسي ضمن مظهر إيديولوجي حالم بتحقيق مقولاته الغائية في مدى بعيد جداً ويبقى المهم التمحور والتمسك بهذه المقولات , وعندما تتصف المقولات بعدم قدرتها على تحقيق أهدافها السياسية يبدأ الفكر بالهجرة من برامجها المضللة للوعي ويبدأ الواقع بالتأزم وتزايد النقائض في بنيته فالحركة الشعبية تنحرف وتهتز المعتقدات السياسية لتصبح أقوال غوغائية مضللة للوعي فتنعدم القراءة الرائدة لحركة المجتمع التفاعلية ويتراجع النضال عن المطالبة بإجراء تغييرات تتفق مع مطالب الناس وإرادتهم , عندها تظهر المؤسسات المرتبطة بالشعب وكأنها قائمة لمنعة من تحقيق أحلامه في بناء دولة تتفق مع تطلعاته الحقيقية .

أنفاس" صحيح أن العدالة ستعمل على حماية الحس المشترك من الانسياق الى العنف لكن بين دغمائية اليمين المحافظ ودغمائية اليسار الثورية ألا يوجد مكان لمقاربة مغايرة..."

1-  عصر الديمقراطية:
" ان الديمقراطية تنتشر في طول العالم وعرضه".
نحن نعيش الآن دون شك في عصر متوجها الى الديمقراطية لأن النماذج الفاسدة في طور التلاشي واحد بعد الآخر وأشكال السلطة تتبدل وأنماط الحكم تطورت شيئا فشيئا لتصل الى مرتبة الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أن النظريات المغلقة ألقت بها الطبقة الناشئة في مزبلة التاريخ وكذلك الأفكار الكلانية المعادية للروح الديمقراطية باتت مستهجنة من قبل النخب المثقفة والمتعلمة ومحسوما فيها من قبل الشعوب والجماهير وداست عليها الحشود بالأقدام في كافة أرجاء المعمورة.
 ان الكل اليوم دون سفسطة يريد ديمقراطية، وبكل بساطة إننا نعيش لحظة البراديغم الديمقراطي بمعنى أن جملة المشاكل والآراء والأفكار التوجيهية والنظريات والتصورات التي تتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد فيما بينهم وبين المجتمع والدولة تطرح ضمن المسطح الذي تنبسط فوقه فكرة الديمقراطية،بعبارة أخرى كل من يبحث عن موطن قدم له في المجتمع ومن يريد الحصول على الصحة والتعليم والشغل والمسكن والحياة الكريمة فانه يطلب الحقنة الديمقراطية من أجل تسكين أوجاعه وكأنها وصفة سحرية تنقل عاشقها من العدم الى الوجود ومن الظلام الى النور.
عبر فوكوياما عن هذا التوجه بقوله:" يتخذ الطابع العالمي للثورة الليبرالية الراهنة أهمية خاصة ذات دلالة وهذا يشكل فعلا شهادة إضافية بأن هناك عملية أساسية تجري وتفرض صورة مشتركة من التطور على جميع المجتمعات الانسانية وبالاختصار هناك ما يشبه التاريخ الشمولي للبشرية باتجاه الديمقراطية الليبرالية."
ان زراعة شجرة الديمقراطية وتربية الناس على مبادئها ونشر غسيل الاستبداد وترسيخ عقلية المواطنة وثقافة التمدن والسلم كفيل بأن يحقق الاطمئنان والثروة والأمن والازدهار للفرد والمجتمع وعلى صعيد الجسد والروح على السواء ومن ناحية المادة والفكر معا. ان النظام الديمقراطي هو المثل الأعلى الذي ينبغي أن يحاكى والمرحلة الأخيرة من تطور المجتمع البشري وهو الأكثر تعبيرا عن طموح الانسانية لتحقيق جملة أهدافها على الأرض الواقع وهو النظام السلام العالمي الذي يعبر عن تضامن الدول وتعاونها حيث يسود التسامح واللاعنف والتعددية والنسبية والاحترام والاعتراف العلاقات الدولية.

أنفاسعنوان المقال هذا ليس لي في الحقيقة؛ بل هو للكاتب الألماني المعروف غونتر غراس, الحاصل على جائزة نوبل في الآداب, والذي يُعاني - بالمصادفة – الآن من مسألةٍ في "تاريخه" لها علاقةٌ إلى حدٍ بعيد بمشكلة الحرية. فقد عاد الكاتب (البالغ من العمر 78 عاماً) لكتابة مذكراته من جديد, وهذه المرة بعنوان "تقشير البَصَل", نعم, تقشير البصل باعتبار صعوبته, وأنّ العين تدمع, وقد تجرح السكين اليد! ومذكّرات الكاتب عن فتوته طويلةٌ ومفصَّلة, وقد سبق أن قصَّ الكثير منها (روائياً) في قصصه الرائعة والتي تتوالى منذ العام 1959م, والتي أورثتْهُ جائزة نوبل للآداب بعد توماس مان وهاينر بول. إنما المهمُّ ليس الطول أو التفصيل أو الروعة؛ بل سرٌّ يذكره الرجل للمرة الأولى, وهو أنه في فتوته (كان عمره 17 سنة) خَدَم في فِرَق الأمن الألمانية (44-1945م)! وهذا الأَمْرُ شديدُ الحساسية ليس للألمان فقط؛ بل ولليهود أيضاً, وسائر الأوروبيين. فقد كانت كتائب الـ SS هذه بقيادتة هاينرش هملر مخيفةً ورهيبةً, وهي تحرس "الفوهرر", ومعسكرات الاعتقال, وتمارس أعمال القمع في الأقطار التي "فتحتها" ألمانيا النازية أو اجتاحتها. وقد كان النازيون الشبان المتحمسون يعتبرون ذلك السلاح والدخول إليه شرفاً ما بعده شرف, وما كانت فِرَقُ النخبة هذه مُتاحةً للجميع؛ ولذلك فهذه مشكلةٌ أُخرى لغــراس: إذ لا بد أنه رغم صِغَر سنّه كان نازياً متحمساً بحيث رضي الذين أجروا له مقابلة الاختيار أن يقبلوا طلبه الدخول إلى منتدى الشرف ذاك!
ولستُ هنا في معرض تقييم تاريخ غراس الشخصي, أو تأثيرات هذه الحادثة على "خلود" عمله الأدبي, الذي كان بمجمله نقداً قاسياً وأخلاقياً ضد نفاق الألمان وخضوعهم خلال العهد النازي, وتلاؤمياتهم "الكاثوليكية" بعد الحرب الثانية! السؤالُ هنا حول المعنى العميق للحرية أو الاختيار الإنساني الفردي": هل اختار غراس الانتماء إلى البوليس الحربي النازي بملء إرادته؟ هو يقول: نعم, لكنني كنتُ صغيراً، وكان الجوُّ النازيُّ جارفاً بين الفتيان  الألمان. لكن: متى أدركْتَ خطأَكَ يا سيّد غراس؟ هو يقول: في مطلع الخمسينات، وظهر الندم في روايته الشهيرة: "الطبل الصفيح"، والتي وردتْ فيها العبارةُ المذكورة في عنوان المقال: أنّ للتبعية (الفكرية والروحية والمادية) وجهاً واحداً، وأنّ للحرية وجوهاً متعددة!. لكنْ يا سيد غراس, إذا كنت قد أدركْتَ ذلك فلماذا لم تُعلِنْ عنه في حين انصرفْتَ طوال أكثر من أربعة عقود إلى إدانة وتعرية ليس كلّ من سار مع النازيين فقط؛ بل وكلّ من جامَلَ أو سكت أو بقي على الحياد؟! ويجيب غراس: نعم هذا صحيح, لقد أردْتُ بناءَ فكرٍ نقدي لدى الألمان لإخراج الفتيان من إسار التاريخ ومن أوهام الحاضر. لقد أردْتُ أن أتسبّبَ في تحرير العقل الألماني والنفسية الألمانية من الجبن والخوف والنفاق والتماس المعاذير! لكنك يا سيد غراس تسبَّبْتَ في نشوء انطباعين باقيين: انطباع الذنب الأبدي للألمان باعتبارهم ألماناً.

أنفاستظهر في فكرنا العربي المعاصر عدة معارك زائفة وثنائيات مصطنعة مثل السلفية والعلمانية، الدين والدولة، الدين والعلم، الدين والفلسفة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الإيمان والإلحاد، الدين والعقل، الله والطبيعة، الله والإنسان، النفس والبدن، الآخرة والدنيا، الرجل والمرأة.. الخ. وتوحي هذه الثنائيات بتناقض أطرافها واستحالة الجمع بينهما لأنهما على طرفي نقيض بمنطق "إما... أو". وتنقسم الأمة إلى فريقين متصارعين كل فريق في صف طرف ضد الفريق الآخر الذي في الطرف الثاني. وتنقسم الثقافة الوطنية إلى قسمين متصارعين، يدمر أحدهما الآخر ويقضي عليه. فينتهي الإبداع، ويعم النقل. ويتوقف الحوار، ويسود التعصب.
والحقيقة أن هذه المعارك الزائفة قد نشأت في الغرب وتجربته في الحداثة. فبعد أن اكتشف الغرب في مطلع عصوره الحديثة منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة استحالة الجمع بين الكنيسة والدولة، بين الدين والعقل، بين الإيمان والعلم، بين أرسطو والطبيعة آثر استبعاد القديم واستبقاء الجديد، وترك الكنيسة والدين والإيمان وأرسطو وبطليموس، والاعتماد على العقل والعلم والطبيعة وقدرة الإنسان على الفهم والنقد والتحليل. فنشأ في الوعي الأوروبي هذا الصراع بين القديم والجديد، وتربى على هذه الثنائيات المتعارضة.
ومنذ ريادة أوربا في عصورها الحديثة، وتحولها إلى مركز للعالم، وانتشار ثقافتها منذ القرن الماضي خارج حدودها مصاحبة للمد الاستعماري في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، انتشرت هذه الثنائيات خارج حدودها، وعمت الثقافات الوطنية في الأطراف، ومنها الوطن العربي. فنشأ لدينا ومنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي هذا الرافد الجديد في الثقافة العربية. وبدأ التقابل بين الموروث والوافد في الظهور على نفس النمط الغربي خاصة في التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل، وفرح انطون، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا. وكلما زاد العداء للموروث انتشر النمط الغربي الذائع خارج الحدود.
وقد حدث هذا الفصام في الثقافة الوطنية في لحظة تاريخية توقف فيها الإبداع، وعم فيها التقليد والاتباع. فلا فرق بين النقل من القدماء لملأ الفراغ أو النقل من المحدثين. فضل البعض النقل عن القدماء لعجزهم عن الإبداع وتوقفهم عن الاجتهاد. فتراكم القديم فوق واقع لا يتلائم معه، ويتطلب حلولا أخرى غير التي صاغها القدماء. فدفع ذلك البعض الآخر إلى أن يولي وجهه شطر الحلول الجاهزة الوافدة من الغرب، فتراكمت بعضها فوق البعض. وأصبح الواقع يئن تحت الموروث والوافد. وكلاهما نقل. فاذا انتفض الواقع باسم الحاضر تهاوى الموروث والوافد معا كما حدث إبان الثورات العربية الأخيرة التي بدأت من الواقع الوطني من أجل التحرر من الاستعمار الخارجي والقهر الداخلي والقضاء على الفقر والتخلف والتجزئة والتبعية دفاعا عن استقلال الإرادة الوطنية.

أنفاسالحداثة السياسية عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
»لايمكن إرغام أحد بالقوة أو بالقانون على امتلاك السعادة الأبدية«
                                       سبينوزا 

تقــــديم
نشتغل في هذه الورقة على زاوية محددة من زوايا التفكير في الحداثة السياسية، نشتغل على الجوانب النظرية الموصولة بالحداثة في فكرنا المعاصر(1)، ولا نعتني كثيراً بالوقائع السياسية إلا في السياقات التي نلجأ فيها إلى التمثيل على مسألة بعينها. نعلن هذا الاختيار في البحث والمقاربة لاتساع مجالات الموضوع وتنوعها، ولأننا نتصور أن التفكير في الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي يتطلب جهوداً بحثية جماعية مركبة، يتم فيها الاهتمام بالفكر مترجماً في المشاريع الإصلاحية وبرامج التحديث، كما تتم فيها العناية بجوانب الممارسة الفعلية التي يفترض أنها تترجم بطريقة أو بأخرى نوعية الاختيارات المفكر فيها، لتبني بلغة الواقع والتجربة أنظمة السياسية وأنماط التدبير السياسي.
ونتجه في سياق عنايتنا بالمجال النظري للحداثة السياسية العربية نحو بناء محاولة تفكر بمنطق السلب وآلياته في التحليل والفهم(2)، حيث نركز اهتمامنا على عوائق الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر أكثر من سعينا لتشخيص وجرد المكاسب والمنجزات، ومبرر هذا الاختيار في البحث يعود لقناعتنا بوجود موانع عديدة تحول بيننا وبين استيعاب أكثر تاريخية لنظام الحداثة السياسية ومفاهيمها، ولعلنا في هذا البحث نوفق في إبراز بعض هذه العوائق، وتقديم تصورنا لكيفيات تجاوزها والتقليص من حدة تأثيرها السلبي على مشروعنا التاريخي في الحداثة والتحديث ..
وإذا كنا في هذه الورقة نسلم بأن أغلب التجارب السياسية التي قامت في كثير من البلدان العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين تشكل مرحلة انتقالية جديدة في طريق بناء المشروع السياسي الحداثي، فإننا في الوقت نفسه ننظر إلى علامات التحول الجارية بكثير من الحذر والاحتياط، بحكم مظاهر التردد بل والتراجع التي تتحكم في هذه العلامات في أغلب البلدان العربية.
نقرأ إذن تاريخنا المعاصر، ونعيد ترتيب بعض معطياته في ضوء مساعينا الرامية إلى المساهمة في تعميق الحداثة السياسية العربية، وهذا الأمر بالذات يتطلب بناء توضيحين اثنين.