تبعته يوما. كان يمشى أمامي. شعر بأني أراقبه فلم يلتفت، لم يكن يهتم لوقع خطواتي التي دنت منه. بهيأته المديدة وشعره الأشعث المغبر لمحته يدلف إلى المقهى فتبعته. رأيته يجمع الأكواب ويسكب بقايا القهوة في إحداها ثم يشرع في التقاط أعقاب السجائر وينزوي في ركن معزول من المقهى الضاج دوما بالزبائن ثم يشرع في إشعال تلك الأعقاب الواحدة تلو الأخرى. كثيرة هي أثار كيِّ نار السجائر على معصميه وظهر كفه. لم يتعلم من الحياة دروسها مهما حاول أن يكون مجدّا في التعلم. ظل يراوح مكانه متأرجحا مثل بندول ساعة معلقة على جدار محطة هجرها المسافرون فلا يتوقف فيها القطار. لم يتقدم ولم يتأخر، حسبه أنه يحيا.
الوجه شاحب والعينان غائرتان والوجنتان بارزتان وعظام الكتفين ناتئة. أرسل شعر لحيته القليل وتركه دون تشذيب فتناثر فوق وجهه وقد غلب بياضه سواده. هدته الأيام وتغضّن جبينه. لم أعرفه عندما وقعت عليه عيناي. لم أره منذ زمن. كبر خلاله عقدين كاملين، وَخَطَ لشيب فوديه. تسمرتُ في مكاني أحدق فيه، أتملى ملامحه وقد فعلت فيها الأيام فعلها. لم يكن يراني، كان يقف قبالتي لكن عينيه كانتا تحدقان بعيدا، تتبعان خطى روحه الهائمة التي لا تعرف الاستقرار في مكان. ما يكاد يجلس حتى ينهض من جديد ويسير ينوء تحت كلكل من الهموم الثقال والخيبات المتعاقبة. أعرضت عنه الدنيا، صفعته بلا شفقة، كالت له الضربات الموجعة، أنشبت أنيابها الحادة في لحمه البض الطري حتى بلغت العظام. لم ترحم غربته ولا ضعفه، تجاهلت يتمه وعذابات السنين التي قاساها.

الإحساس بالفقد رهيب ومرعب والأنكى منه فقد الوالدين عندما نكون في أمس الحاجة إليهما. هكذا استقبلته الحياة يتيما فذًّا. لم يحس يوما بدفء حضن أم ولا حماه جناح أب. ضُرِبت عليه المسكنة منذ صرخ الصرخة الأولى وتدحرج زغلولا بلا ريش إلى هذه الدنيا. مدفوعا على الأبواب شبَّ تتقاذفه الليالي والأيام، تسلمه المواجع للمواجع. أضناه البحث عن مأوى آمن يلجأ إليه. محروما من اللجوء إلى حضن أمه فكواه برد البلاطات في المحطات وعلى عتبات المساجد وعلى أرصفة الطرقات. قشة ذرتها الرياح ولَهَتْ بها فتطايرت في الفضاء ورحلت بها من مكان إلى مكان. مضت به الحياة عبر دروب ملتوية ملغومة لا يدري متى ينفجر عليه أحد الألغام فيفتت جسده النحيل. ولج متاهات وعرة وخاض عباب يم متلاطمة أمواجه. لم يكن مهيأ لخوض كل هذه المعارك، لكنها الأقدار ساقته إلى ما لا يعرف من الدروب، وطوّحت به بين المدائن والمداشر يتنكب لقمة يسكت بها سغبه.

استفاق أحمد مضطرب المزاج، مشوش الذهن.. حاول ان يطرد من رأسه أفكارا و هواجس ليبدأ نهاره كالمعتاد، لكن تأثير الصدمة كان أقوى .. فلم تفلح محاولاته الكثيرة للعثور على الكتاب..الكتاب الازرق او الصديق الوفي كما يحلو له ان يسميه..
لقد قضى البارحة يومه باحثا عنه ، لكن اجتهاده باء بالفشل..
الكتاب عنده بمنزلة الصديق..
اشتراه عندما كان طالبا في المستوى الاعدادي..
لازمه طيلة سنوات الدراسة، وكان فخوارا به بين زملائه..
بحث عنه وسط كومة كتب قديمة قل استعمالها، وداخل مجموعة أوراق ملقاة بأحد جوانب البيت.. وفكر ان يسأل زوجته في الموضوع لكنه تراجع عن الفكرة..
لهفته على الكتاب ليس لها حد، وفكرأن يسأل صديقه بشير الذي شاركه غرفة بالحي الجامعي أيام الدراسة فأجابه الصديق قائلا« ما عادت لي صلة بالكتب مثلما كنت يا صديقي..العمل في الادارة يأخذ كل وقتي..».

    حنين، حنيني إليك، أين المفر منه ومنك؟ فأنا أهرب منك إليك، أهرب بعيدا، وما تهرب إلا مخيلتي وراء الذكريات، فأين المفر؟ أهرب لأجد نفسي في حضن الذكريات، ذكريات قال عنها إنها زادي وملاذي في ساعات الوحدة، لأعثر عليها تتلصص على ألمي وتتفق مع الشيطان في طرح جسدي لخبايا الشر، تقدم دموعي ونزيف قلبي قرابين ليظل سيّد الشر، وتظل هي عالقة في مخيلتي، إفرازات الهوى تشدني بخيط ناظم يفصل بينه وبين ذكرياته، يمكن أن نقول عنه فن الوخز بالإبر؛ وخز يجعلك تحس بالألم في البداية؛ ثم يتلاشى شيئا فشيئا من مخيلتك الصغيرة، لكن الوخز الحقيقي الذي يوجعنا أكثر و يظل يرافقنا، هو وجع ذكرياتنا.

     هذه أول خاطرة لندى مع أفكارها، عنونتها ب: "لماذا أكتب"، وكان هذا أول تساؤل انتاب مخيلتها، و أول كلمات أثقلتها ليلة كاملة منذ أن التقت بأحمد زميل دراستها القديم، أعادت رفع القلم مرة ثانية بعد أن انتهت من مناوشاتها مع ذكرياتها، لكنها عجزت عن الكتابة، شملت جسدها رعشة رقيقة؛ رعشة الموت و الحياة، لم تجد سلواها إلا في تسليم أمرها للدموع، والمشي بخطوات مبعثرة  من اليمين إلى اليسار؛ ومن اليسار إلى اليمين، تحاول شغل أفكارها عن التفكير في أحمد، ظلت ليلة كاملة ما بين جبروت الصحوة و ميلان النوم، منتظرة بكل لهفة بزوغ شمس يوم جديد.

في الصباح الباكر خرجت ندى تهرول بين الأزقة والشوارع هائمة على وجهها مثل شخص نسي اتجاهاته، أو كأنها هاربة من شبح يطاردها، أحست فجأة بالتعب والجوع يدغدغ أمعاءها الصغيرة، فقررت العودة إلى بيتها و تناول وجبة دسمة نكاية في طيفها المجهول، ومواجهة مخاوفها، واتخاذ القرار البعيد القريب؛ القرار الذي ظل مؤجلا لسنون من الزمن؛ بسبب خوفها وانفعالاتها التي تقف حجر عثرة في حياتها.

دخلت منزلها أخيرا، وبدأت بإعداد وجبة الفطور، وحملت كالعادة إبريقها النحاسي وبدأت في صنع قهوتها المعتادة، رغم وجود آلة كهربائية لصنع القهوة، لكن ندى تحب طعم القهوة في الإبريق؛ فرائحة القهوة تساعدها على تصفية ذاكرتها، وعند الانتهاء من وجبة الإفطار الإجباري- فالجوع سيد المواقف- حملت فنجانها و ذهبت إلى غرفتها و بدأت بخط أول كلماتها لأحمد منذ ودعتها رغبة الكتابة، اليوم تكتب بارتجاف يدها و كأنها أمام جلسة الغفران.

في بادئ الأمر كان الأمر عسيراً جداً. أن تمضي الليل مستيقظاً، ليس أفضل الخيارات. لكنني لم أكن سيد القرار. وكان عليّ تقبل وردية العمل المسائية.
لم تكن لدي مهام وافرة، بحيث أكسب وقتاً كافياً لأختلي بكنزي، وأطالع بعضاً من فصول كتابي، فطالما عشقت مجالسة المؤلفات والدواوين في الليالي الحالكة، أستدفئ بدفئها وأستنير بنورها.
لا أحد يزعجني. وحدها أصوات الأجهزة كانت تلاطف مسمعي وتؤنسني.
أحياناً كان زميلي أسد يأتيني بكأس القهوة، ونتجاذب أطراف الحديث، ثم يعود إلى مكتبه الذي يبعد عن مكتبي بثلاثة أَقسام.
مضت سبعة أشهر على هذا الحال الذي لم أرتح له، لكن قبِلت به إلى أن حانت ليلتي الأخيرة هناك.
كنت أستمتع بكوب قهوتي في المنزل حين هاتفني حسين مساءً. توسّلني أن أعمل مكانه تلك الليلة بسبب مرض ابنته صوفيا التي كنت أحب ملاعبتها دائماً. قبِلت طلبه لعطفي على الصغيرة، ولحظي التعيس كانت ليلة ماطرة.
هاتفت سائق سيارة الأجرة، الذي كان رقمه المحمول بحوزتي، وأقنعته بإيصالي إلى مكان عملي في أجواء عاصفة.
لدى بلوغي المقر، وجدت أسد في انتظاري عند المدخل، لكن مزاجي السيئ منعني من أن أبادله التحية بأحسن منها فدخلت مسرعاً.
مضت من وقتي ساعة في تعديل الملفات، التي عرفت كثرة الأخطاء، وبعد تعبي قصدت آلة القهوة، لأعدل مزاجي الذي تعكر بسبب غباء الموظفين في التعامل مع المعلومات، فأحسست أن مقر عملي مكتظ بالبلهاء.

اكتشفتها في سطرين أو ثلاثة. تلك البلاغة العميقة عن الموت ورحيل الآخرين بلا استئذان. كان أبي أحدهم، وربما لم أفقد غيره بمثل تلك الدعابة الفجة التي صاغها حكيم عن الفراق المبكر للحياة.
نمشي إلى الموت غير مصدقين. حيارى يأكلنا الحنين إلى انبثاقات الرحم، حيث تبدأ الحياة صراخا كأنها لا تطاق منذ البداية. ثم يصير الأمر عادة قبل أن ندمن وهم الخلود. وفي هدأة العمر حين ترتخي العضلات، يبرز صدأ الحقيقة المتدثر بالأمنيات: فلان مات!
وفلان هذا يقطن غرفة في سطح البناية. متران على ثلاثة أمتار هي كل ما جادت به الدنيا على "عمي حدو". كهل قارب الخمسين بلا ولد أو وتد. زعموا أنه كان يخنق النصراني بيديه زمن الاحتلال الفرنسي، ويلقي الجثة في مزبلة خارج البلدة. بحثوا عن الفاعل شهورا طويلة قبل أن تشي به أرملة في الأربعين لعشيقها الذي يعمل كلب حراسة في فيلا الكولونيل.
سوق النسا سوق مطيار يقول عبد الرحمن المجذوب. وبعد أن سطعت شمس الحرية و الاستقلال كثر المجاذيب في حينا. منهم من قضى نحبه تحت وطأة الجحود، أما عمي حدو فكان يشير بسبابته إلى السماء راضيا. تحملوا وطأة التعذيب ورطوبة الزنازين ليفترشوا عتبة الوطن حتى حين. وطال ال" حين" سنوات قبل أن تشرع الحكومة في جرد اللوائح وتخصيص المعاشات.
في فيلا يملكها تاجر قماش بفاس وجد حدو ضالّته. ها هو يقضي يومه في سقي أحواض النعناع والثوم والفلفل الحار، مترقبا عشية السبت ليتجاذب أطراف حديث مقتضب مع الحاج الصقلي. شيء غامض يجمع بين الاثنين، ويرفع الكلفة في حضرة براد شاي منعنع، وعلبة حلوى فاسية يبللها حدو بريقه ثم يبلعها بشغف.

لم أره يضحك و لو مرة واحدة طوال حياتي ، و لا أحد في القرية يتذكر أنه رآه مرة يضحك .صارم النظرات كان صامتا كوادي قريتنا ، وارفا كالشمس هادئا كليالي الربيع ، بمعطفه الأسود و كبوسه الاحمر و حذائه الثقيل يبدو من بعيد وهو يمشي في شوارع القرية الترابية يتبعه كلبه ، جبلا من العظمة وبستانا من أكاليل الورد و أهازيج المتعبين .
كان الناس يتهافتون على مصافحته و السلام عليه فهو أول من أدخل سيارة إلى القرية ، يومها ظهر للناس و كأنه جنيّ يمتطي غولة من الصخب ، يقول الناس أنها كانت سيارة عسكرية ألمانية مكشوفة ، لقد عمل مع الألمان طويلا حين سيطروا على جنوب تونس ، يترجم لهم و يساعدهم في كل شيء هكذا يقول أهالي القرية ، تعلم فنون البناء منهم و لقنوه لغتهم ، فتشرّب منهم الصرامة و حب العمل و قلة الكلام ، و لذلك كان أهالي القرية يتهامسون بأنه أصبح هو أيضا ألمانيًّا حتى بعد أن تركوا قريتنا ،رافقهم هو إلى الحدود الليبية . وحتى بعد الحرب والاستقلال ظل سبّاقا في كل شيء : فهو أول من بنى بيتا كبيرا فيه الماء والكهرباء ، و أول من أدخل خط هاتف أرضي في القرية ، و أول من كان ينزع أسنانه ويركبها كساحر و الناس منبهرون بذلك العجوز الذي سكنه الجن ، و هو الوحيد الذي ترسل له فرنسا الجرائد مطوية بعناية يحملها له ساعي البريد كل بداية شهر ، وهو الوحيد في القرية الذي يشتري الورق من الدكان و لا أحد يعرف لماذا يشتريه ، و هو أول من اشترى سيارة مثل شاحنة صغيرة رمادية من نوع بيجو ، و هو العجوز الوحيد الذي رغم ثروته لم يفكر في الحج للأراضي المقدسة بل أرسل ابنه الأصغر للدراسة في فرنسا و هو الذي يحوّل مستودع مقاولاته إلى مطبخ كلما حل شهر رمضان فيوزع على الفقراء الطعام قبل أذان المغرب طيلة الشهر المعظم ، لا يجلس في مقهى القرية أو يتعبد في جامعها بل تبدو حياته عادية و روتينية ففي الصباح يذهب إلى مكتبه في وسط المدينة و عند العصر يقضي وقته في الاعتناء ببستانه الخلفي وراء بيتنا والذي ضم شتى أصناف النباتات و الخضر و بعض أشجار الرمان و النخل والتفاح ، كنت كلما رأيته يعمل بصمت و أنا ألاعب كلبه ، أتذكر كل ما يقوله الناس عنه فأشعر أن هناك سرّا يمنعه من الاختلاط بهم و هو لا يكسر نظامه الصارم إلا يوم الجمعة ففي ذلك اليوم يترك كلبه في البيت و يسير راجلا إلى جامع السوق وسط القرية وقد لبس برنسه الأبيض الصوفي الطويل فيلفّه على رأسه و يشده بخيط إلى كتفه تماما مثلما يفعل عمر المختار ، و لكن ما أجمع عليه أهل القرية هو أنه الوحيد الذي لم يضحك أبدا في حياته . ، و لا أحد في القرية يتذكر أنه رآه مرة يضحك، ولا أحد يتجرّأ على أن يسأله عن السبب إلا أنا ، و حتى حين أسأله لا يجيبني بل ينظر إليّ نظرة غريبة لا أفهمها ....

- "اعذرني يا سيدي. فأحيانا تخذلني ذاكرتي وهي على قطار العودة إلى أيام الصبا. لا أشعر إلا وقد هربت دموعي مني اشتياقاً لأيام ما ظننتها تبيد أبداً.
ألفت الاستيقاظ باكرًا. أرتشف قهوتي الدافئة قبل أن أرتمي في حجر أمي لتمشط شعري برفق استعدادًا لذهابي إلى الجامعة. أحيانًا كانت تضفر لي جدائل طويلة كما تُضفر للأميرة التي سمعت قصصها باستمرار من أبي منذ الصغر قبل أن يداهمني النعاس.
تحملني خطواتي المستعجلة كل صباح نحو ذلك المقعد بالذات؛ بجانب مقعده حيث تعودت الجلوس، بينما تعود هو على مداعبة شعري بلطف قبل أن يكتظ المدرج. عشقت طلته البهية وكل تفاصيله وأنا أترقب تحركاته، خصوصا نظرته تلك التي مازالت تقتحم منامي حتى الآن. لم أكره شيئًا قطّ مثلما كرهت نهاية الحصص وأيام العطل التي كانت تأشيرة لعوالم الشوق والوحدة.
امتزجت الألوان الزاهية بحياتي الرتيبة وألحان الحب عُزفت على أوتار العود السّاكن بدواخلي، لتتشكل لوحة جميلة عندما طلب مني ذات صباح زيارته في بيته بحجة المذاكرة. لم أدرك حينها أنني سأتعود على ما سيحدث حتى غدت تلك المشاعر المتقدة أثناء خلوتنا جزءً لا يتجزأ من عالمي. ذاك الذي انهار دون سابق انذار عندما أعلمني أنه سيرحل لبلد ثان وأن أنسى ما حصل.

إلى جذعيّ النوراني بقريتي أصله ثابتا وفرعه في السماء.

استهلال

''أحيانا الجنون قناع يخفي مقدرة معرفيّة، أكثر يقينا'' نيتشه
أحمد وتلحق باسمه غالبا كلمة بذيئة مسيئة يُكَنَّى بها، يُطْلقها الأنذال الذين لا يكتفون بالتنابز بالألقاب بل يتمادون في إلقاء الكلام على عنانه في سبّك حكايات عنه. مثل هؤلاء لا يدركون أو هم يتجاهلون بأن ذلك نميمة ممقوتة. أليس من حقّ أي كائن أن يتمتع بحرمة وكرامة حاضرا كان أم غائبا؟.

عرفته، غريب الأطوار، محملا بالأسرار، أرى على وجهه ترتسم علامات هموم توحي بمعاني أعظم من الفصاحة نفسها وقد تفهم منها حكمة ضائعة عن كدحه. هو لا يفصح عنها لأنّ الوجود أبهته ويراها الساذج كأنها هي أقصى بلاهته.

رأيتُ شعره اشتعل بياضا وثيابه بالية رثة لا يبالي بالمارين ولا بهذه الحركة العقلانية في ظاهرها والتي في باطنها خداع. تتربص لفعل الشرّ. لكنه لا يبالي بحركة صخب الحياة وضجيجها ولم يغيّر من وضعه كأنّما هو وفيّ لمبدأ تحقير الوجود والموجودات. بحيث أنّه لا يتوانى بأنّ يجعل الذين من حواليه يقولون عنه أنّه مختل العقل تنتابه حالات من الهوس فكان يخيل لهم أنّه يتلوى كالأفعى ويراقص السراب. وتضعه المقادير دوما في مأزق.

أمّا بالنسبة إليّ فإنّه كُلما وقف أمامي برهة صامتا أعطيه إن كان بحوزتي ما يكفي لاقتناء سقائره المفضلة، وكم حاولت في كلّ مرّة أن استبدل الصورة التي كونتها من أقوال الناس بالصورة التي أراها فيه.

الأمر ليس هيّنا في مجتمع يتفق على تقليد بعضه في الضلال لهذا كلفت أن أكشف عن خفايا حياته وعن أسرار صمته الدائم وانطوائه، فعلمت ما جهله الناس. عنه

سأحاول أن أُوكّد لكم دون ريب ولا تردّد أنّه لم يكن مجرد كتلة هامدة فارغة من معانى وإنّما هو مثل كلّ شخص مهما صغر فإنّه يحمل ما به يكون، وله ككل كائن قصّة تفسّره .ولكن يحصل كما يحصل لكلّ كائن أن يجنّ لأنه يئس من وجود الحلّ ويرى حينها بأن الحياة لا تستحق إلاّ أن يعيشها بالخيبة والمرارة. وهذا ما اعتقده جازما فما حصل لأحمد كان كمن انتهى فعله واستقال للراحة وأنهى إنجازه لحياته وهو يتأهب للرحيل في صمت ودون ضجّة فكان المطلق فيه أقاصي التعالي.هربا من بغي الناس وجبروتهم. وفي الوضع الذي هو فيه هل يقدر أي إنسان مثله أن يموت مرتين وأن يكون مبدعا مرتين؟ أليس في ذلك إلاّ استحالة الفعل وضمور القول؟