أنفاسيتسلقنا الفقد....كما تتسلق عُلّيقة عجوز ..حاقدة ..جدار بيت الجيران العتيق..في حارتنا الحمراء الطينية ، فتتوحد فيه لتصير كالوريد المتوغل...وحشي بخضرته في جسد ذاك الجدار القديم الفاتر ...حياةً.
...وتندفع الذكريات بداخلنا ..كاندفاع مسافري القطارات ..ببوابات القاطرات النحيلة ، فيضج بضوضاء التناقض ....ويوغل الكف بداخلنا ...ويجتثّ السكينة منّا...ويعتصر براحته أحشائنا ..وهو يترنم بأنشودات طقوسه بنشوة ...
... فيشعرنا كمسلوبي الإرادة .....عاريين من قدرة اتخاد القرار....لانرسو على ميناء....ولاندري بما نشعر... بالضيق أم بالبهجة؟؟؟ ...بالغضب أم بالسكينة ؟؟؟ .....بالرغبة في الهروب أم بالحنين والعودة ؟؟؟؟
لاندري حتى ماهيتنا.... وما نحن ؟؟؟؟ بعدما انبعثت الحيرة جدولا بشراييننا وأوردتنا .... لتجرف كل ما أعتقدنا ببقائه شامخا في حيواتنا.....وتلك النُظم والقوانين...والرموز التي لطالما شعرناها لاتخبو...
"حين لاتتوقف عقارب الحزن بساعة عالمك الحائطية......لاتحاول ضبطها بأناملك.، بل اجعل حزنك قوة.....واستثمره في مشروع إنسان..، فلا إنسان دون حزن "

أنفاسودعت صديقاتها على ان يلتقوا فى الصباح الباكر قبل تحية العلم
القت نظرة خجلة على الفتى الذى يتبعها كل يوم كأنه حارسها الخاص
كل يوم يراقبها من بعيد وتراقبه ولا تفهم ماذا بعد
وفى ذات يوم هتف باسمها..تلجلجت كيف عرف اسمها وكيف تجرأ على ان يستوقفها فى منتصف الطريق
اقترب بخطواته التى تقارب بعضها وتشبه الخطوات الأولى لطفل
**
اقترب اكثر .. كانت المرة الوحيدة التى يقترب فيها الى هذا الحد
لمحت فى وجهه الطفولى عرقا غزيرا كمن ارتكب ذنبا
لم يتلفظ بحرف.. ركز النظر فى عيناها السوداوان وتبسم
اخرج من جيبه ورقة ودسها فى يدها وانطلق يسابق الريح

أنفاسبعينين ممتلئتين دموعا جامدة يتتبع المشهد ......تعاليق تبارح الأفواه وكأنها مادة أولية لرصاص نافد.....لا يكاد يعلق على ما يدور ، إلا انه يفهم كل ما يجول في حلبة صراع تجمع الام و الأب .هدا الأخير لا يبدي غليان الدم ، في مقابل الأم التي لا تلوي على شيء .تدرك بأبسط صيغة أن الزمان يستعد لصفعها مرة أخرى بعد أن أمنت منه لفترة :
- نوض قلب على خدمة.
يقابل نداءها ببرودة دم . وفي  قرارة ذاك البرود يدرك بدوره أن نومه ستقضه فاتورة ثقيلة تهديها مصاعب العيش .
بعينين حزينتين يتتيع المشهد ، ليس بوسعه أكثر من ذلك ، يؤنس أمه بأسئلة عميقة المعنى ، تتعمد بدورها أن تضعه على الخط و تحيطه علما بما يقع .... وتضع له سيناريو محتملا لما سيقع ، تزيد من هروبه ، ومن معانقته لصداقة الحلم الكبير .....يوم يكون له شان كفلان وفلان ....يوم يكتب له أن ينقذ أمه و أباه من براثن الزمان ...يوم يكتب له أن يلامس حلمه.....ويوم ...... يستفيق على وقع صراخ غريب ، ولكنه معتاد ، يلعن في قرارة نفسه الأقدار التي رمت به إلى هناك .

أنفاسكان كل شيء حوله يبدو هادئا ، الغرفة الضيقة تسبح بحمد سلطان العتمة ، والأريكة العرجاء تندب حظها العاثر الذي رماها في هذا المكان ، والكرسي المهترئ يترنح بزهو مترقبا سقوطه قبل الأوان .
في هذا الفضاء الذي يوحي بالبؤس ، كان ً با علوان ً يقضي أفضل أيامه ، كان يحب كل شيء في غرفته اليتيمة ، كان دائما يعاين المشهد والابتسامة لا تفارق محياه ...التيساع في الخاطر...هكذا يجيب كل متذمر من الفوضى والأوساخ وضيق المكان.
أيام صاحبنا تكاد تتشابه ، فلا جديد يميز يومه عن البارحة ، انعقد لسانه بفعل الروتين ، فأصبح لا يتكلم إلا بعسر وثقل شديد. كان يخرج كل صباح متجها إلى السوق الشعبي القريب من محل سكناه ، يتوقف كالعادة عند ً داعلي ً صاحب الحريرة العالمية، ذات النكهة الخاصة بفعل خلطات سحرية متقنة ، يتناول صحنين ، ثم يستلقي على كرسي بلاستيكي في انتظار قدوم بقية الوجبة ..خبز وزيت وزيتون وشاي بالزعتر.....    يلتهم با علوان ما بين يديه وما خلفه التهاما ، ثم يشير الى داعلي بإشارة يشمئز منها الأخير اشمئزازا عظيما ، فهي تعني تدوين الحساب إلى أجل غير مسمى في الكتاب المعلوم.

أنفاسضرب الجفاف البلاد طولا وعرضا...واعلن ان سيادة الرئيس سيلقي هذا المساء خطابا بمناسبة عيد النصر، وتساءل المواطنون  :اتراه سيكون خطابا روتينيا كما جرت العادة ام سيكون خطابا استثنائيا هذه المرة ؟
وتاخر الخطاب عن التوقيت المعلن ، الشيء الذي لم يحدث ابدا منذ ثلاثة عقود ، وظل المواطنون ينتظرون امام الشاشات في البيوت والمقاهي ، وبما ان السيد الرئيس تنقل الى الخارج عدة مرات خلال الشهور القليلة الماضية ، وان السيدة الاولى شوهدت حسبما اشيع ،تسير لوحدها في حدائق القصر واجمة حزينة ، فقد ازدادت حيرتهم ...
وظهر اخيرا السيد الرئيس ، بدا قلقا  ومتعبا ، وخطب فترحم على الشهداء واثنى على المقاومين وكل من اريقت قطرة من دمه على تراب هذا الوطن العزيز، واضاف بانه بفضل هؤلاء يعيش الشعب الان حرا كريما ، ثم اكد ان البلد يعاني حاليا من كارثة الجفاف ، وانه يجب على الجميع ان يقاوموه كما قاوم اجدادهم العدو بابسط الوسائل المناجل والمعاول..
وبحماس كبير قال بالحرف : ونحن كذلك سننتصر ، ولدينا السلاح الفعال لذلك ، به انتصر الانبياء والرسل وعظماء الناس امثالنا ، انه الصبر.

أنفاسفكر قليلا ..ثم شرع في الكتابة ...
ــ انتظر أيها البليد ..(قال لنفسه) .. لا وقت للناس للتعثر في مقدماتك .. هذا زمن المباشر .. كل شيء يتم مباشرة وعلى المباشر .. حتى القتل والشنق .. وإذا كان العيد قد حل ذلك الصباح .. فالذنب ذنبه لا ذنب المشنقة...
ــ اتركني أكتب .. (قلت لنفسي) .. فمقدماتك أطول من مقدماتي وأنا لا أريد الكتابة عن أولئك الذين ترك كل واحد منهم مديته وبيته وخرج إلى الشارع منتحبا ..لأنه رأى في وجه كبش العيد وجه صدام...
سأبدأ هذه القصة مباشرة بحوار لأستهوي القارئ .. القارئ ثرثار يحب الثرثرة وإلا لما كانت هناك كتابة أصلا .. الكتابة مورد رزقي يا ناس.. و بالكاد أصبحت أتقوت !
ــ مرري طبق الخبز من فضلك .. قال الأستاذ بلطف وأدب للمرأة الأربعينية الجالسة بجانه.
ــ خذ .. ولم تلتفت إليه حتى ..ظلت منهمكة في الأكل بشراهة.
ــ أمي ! صرخت الفتاة في غنج و دلال .. أحدهم يعبث بقدمي تحت الطاولة..
ــ معلش يا ابنتي ..  مجرد حادث .. قالت الأم وهي تتصفح وجه شاب بعينه..

أنفاسكادت أن تتراقص فى الهواء كأنها فراشة انعشها الضوء حين استعدت للرحيل
كان حلم السفر فى كل حركاتها وفى عقلها الباطن
كانت تخفى عشقها لتقاليد الغرب وان كان لسانها ولكنتها الغربية يفضحان ما تخفيه
كانت ترسم للغد الف خطة وقررت ان تنجب فى بلاد الغرب لتمنح لوليدها جنسية غير المصرية
**
اعدت حفلة خاصة واستاضفت كل صديقاتها
تهامست الفتيات عن ملامح الغرب .. الحرية .. الموضة .. عن الحضارة
كانت تردد دائما انها مثل العصفور السجين
كانت تريد ان تتمرد..  ان ترقص عارية ..ان تتجرد من كل تقاليد القبيلة
**
كان والدها مدرسا للتاريخ .. لطالمها ردد على مسامعها قصة الاجداد وتاريخ الوادي

أنفاسحاولت ان اتذكر الذي حصل لكني بعد عدة محاولات ايقنت اني غير قادر على معرفة تفاصيل الحادث.
في تلك الليلة خرجت بعد ان شعرت بضيق التنفس وآلام في صدري ، وبينما كنت اسير في ازقة الحي وجدت نفسي في زقاق ضيق لم ألفه من قبل ولم اشاهده، تعجبت كيف لم امر بهذا الزقاق ؟ على الرغم انه لم يبعد عن محلتنا كثيرا. كانت هذه الافكار تراودني وانا عند مدخل الزقاق لكنها انقطعت حينما سمعت صوتا اجشاً مبحوحاً يوحي بالكآبة والانطواء يقطع عليّ تأملاتي في هذا الزقاق
سألني ؟ و ِِلمَ تستغربه ؟ انه هنا منذ زمن طويل لكنك انت من لم يره.
لم يدع لي مجالا للسؤال او الاستفسار واشار اليّ ان ألزم الصمت. ما الذي جعلني لا اتكلم .. لم انطق .. لماذا استسلمت له بهذه السهولة واصبحت منقادا اليه ؟ ما السحر الذي يملكه هذا الرجل؟ المسن اصفر الوجه كأنه جاء من اطراف العالم وكأنه لم يذق قطرة ماء منذ سنين. كيف قبلت السير معه داخل الزقاق؟ هذا مالم ادركه حتى هذه اللحظة. وحينما سألني المحقق بعد عشرين عاما كيف تعرفت عليه وكيف دخلت الزقاق معه لم اجبه لان الاشياء في حينها لاتبدو اكثر صورة ووضوحا.