أصدر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي* كتابا بعنوان " السيطرة على الإعلام : الانجازات الهائلة للبروباجندا"،  وترجم إلى اللسان العربي بقلم أميمة عبد اللطيف سنة 2003 عن مكتبة الشروق الدولية، بحجم 59 صفحة، يتوزع الكتاب على تسعة فصول. ونسعى من خلال هذه الورقة إلى دعوة القارئ المعاصر لضرورة القيام ولو بوقفة لحظية في مجريات الإعلام الدولي  ومجمل ما يدعو إليه وما يتم تمريره في مختلف قنواته، وبالتالي ضرورة إعادة النظر أو بعبارة أخرى توجيه نظرة نقدية إلى طبيعة الرسائل التي يمررها الإعلام في صيغته العالمية، سواء كانت هذه النظرة ذات بعد سوسيولوجي ،فلسفي ... و وجوب هذه النظرة استقيناه من خلال عنوان الكتاب الذي صغناه كالتالي " من السيطرة على الإعلام إلى السيطرة على العالم بالإعلام ".
  I.  استهل المؤلف كتابه بالفصل الأول  المعنون ب :"الإنجازات الهائلة للبروباجاندا"* ،موضحا  فيه مفهوم الديمقراطية باعتبارها تدبير الشأن العام لكن يشترط حسب تشومسكي أن تكون وسائل الإعلام خارجة عن إرادة الجماهير ،أي "أن تظل تحت السيطرة المتشددة "[1] .ويشير أيضا إلى أن وسائل الإعلام لها دور أساسي في مجال الدعاية ،ويستند في هذا السياق لتجربة الرئيس الأمريكي " وودرو ويلسون " الذي عنون برنامجه الانتخابي "سلام بدون نصر "مناهضا فيه فكرة الحرب ،لكنه صنع بمعية جهاز الإعلام والبعض من النخبة ( لجنة كريل )* إرادة اجتماعية للحرب ،حيث حولوا المواطنين من كائنات مسالمة إلى كائنات مهووسة بالحرب ومتعطشة له.

صحيح أن حاضرة الفاتيكان دولة دينية، ولكنها دولة نشيطة على مستوى سياسي أيضا، وإن بدا هذا الدور مغمورا أحيانا، بدعوى الحرص على الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي. ولعلّ ذلك ما حدا بستالين سابقا ليقعَ في تقديرات خاطئة حين تساءل هازئا عن عدد الوحدات العسكرية التي بحوزة البابا، لارتباط الفعل السياسي لديه بالقوة الجارحة وغفلته عما يستند إليه من قوة ناعمة أيضا. وإدراكا لهذا الدور السياسي والثقل الروحي لحاضرة الفاتيكان، نجد الكثير من الصحف الغربية تضمّ في طواقمها ما يعرف بـ"الفاتيكانيست"، أي المتخصص في الشأن الفاتيكاني، يتولى بالتحليل أنشطة الفاتيكان الدينية والسياسية. وفي كتاب إريك فراتيني المعنون بـ"السي آي ايه في حاضرة الفاتيكان"، الذي هو عبارة عن بحث مطوّل، يرصد فيه صاحبه ويتابع أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لثلاثة بابوات: البابا الحالي خورخي ماريو برغوليو (فرانسيس)، والبابا المستقيل جوزيف راتسينغر (بندكتوس السادس عشر)، والبابا الراحل كارول ووجتيلا (يوحنا بولس الثاني). فالولايات المتحدة تعي جيّدا ما لهذه الدويلة من تأثير في السياسة الدولية، وإن كان اتساعها لا يزيد عن أربعة وأربعين هكتارا. ولكن جيش الكنيسة الحقيقي هو جيش فريد، يضمّ في صفوفه أكثر من 400 ألف كاهن، و 760 ألف راهبة. كما تربط الفاتيكان علاقات دبلوماسية بـ177 دولة، وتشمل تحت إشرافها ثلاثة ملايين مدْرسة، وخمسة آلاف مشفى، ويضم "الكاريتاس" (دُور الإحسان)، 165 ألف عنصر بين متطوّع وعامل يقدمون خدمات لـ24 مليون نفر؛ وبالتالي فمن الطبيعي أن تخصص وكالة الاستخبارات الأمريكية جانبا من انشغالاتها لهذه الدولة.

1.    في نقد وهم "الحياد" والنزعة الأبيقورية في الحياة المدنية
يعود أصل الأفكار التي تدور حولها هذه المقالة إلى: جملة من الملاحظات العامة  التي كنت قد ضمنتها في عرض ألقيته بمناسبة ندوة نظمها أساتذة الفلسفة بالمديرية الإقليمية بالفقيه بن صالح حول:"الفلسفة والقيم" بثانوية علال بن عبد الله؛ ساهمت فيها بمداخلة عنونتها ب:" دور المجتمع المدني النقدي في الدفاع عن خيار الحداثة داخل المجتمع المغربي:"نموذج الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة"، وفي ثنايا الندوة، تدخل بعض الزملاء متحدثين عن ضرورة الإستقلالية والتخلص من الإيديولوجية وعن وهمٍ سمّوه "الحياد !"؛ في المعرفة والتربية والحياة المدنية... وكأني بهم آلات تقنية؛ وهم يتحدثون بوعي أو بدونه، كان الأمر -بالنسبة لي- مثيرا للسخرية أن يصدر عن نخب المجتمع أو من يراهن عليهم المجتمع لترقية وعيه  مثل هذه الإدعاءات الساذجة. وقد أحببت أن أبدأ عرضي أمامهم بقصة للفيلسوف السلوفيني:"سلافو جيجيك" سبق له أن استحضرها في سياق نقده للأوهام الرائجة في حقل التربية اليوم، من قبيل أن المعرفة في العصر التقني متاحة ومنتشرة في كل مكان، وتتعلق الحكاية  بأحد المفكرين الإنجليز الذي حضر ليلقي عرضا وسط الطبقة العاملة، وحينما بدأ كلامه حاول أن يكون "متواضعا" فقال لهم:"أنا لا أدعي المعرفة، ولست بأفضلكم، وقد جئت لأتعلم منكم"، وهو ما جرّ عليه غضب عامل نبيه فقال له مقاطعا:"إذا كنت لا تعرف شيئا، فاترك منصبك لمن يعرف أفضل منك، فنحن ندفع لك من المال العام لتفكر نيابة عنا"، وقد تخيلت جوابا لسلافو جيجك انطلاقا من اطلاعي على بعض كتاباته؛ فلو سألته مثلا: ماهو دور الفيلسوف اليوم؟ فسيقول لك:"الفيسلوف يجب أن يكون طبيبا، وإذا لم يكن كذلك، فنادوا له على سيارة إسعاف".

  لا شك أن ثقافة الاحتجاج غدت نوعا من الوجود بالضرورة ، الطامح إلى بناء فلسفة سياسية و ثقافية ، تمتح من معين الرصيد الثوري للشعوب، التي نجحت في تحقيق أمنها السياسي ، و تقعيد أسس الفعل السياسي في البعد الذي يجمع بين خطابها " النظري " و نزوعها العملي ، و قد أرست هذه الثقافة لمحو الخوف السياسي من النفوس ، الذي اعتاد ممارسة الوهم باسم السياسة ، انطلاقا من مبدأ " الطاعة و الرعية " ، غير أن هذا المنحى لم يستطع بعد  أن يؤسس ذاته باعتباره فعلا احتجاجيا مقرونا بالحجاج السياسي ، الذي يتأسس على السلمية و القوة الاقتراحية  ، و يترجم في المشروع الاجتماعي البديل الذي يطور من التراكم المحقق ، و يتجاوز الكوابح و المعيقات ، و يستطيع أن يستثمر خصوصياته المجالية و الاجتماعية و الثقافية و حبك مقوماتها ، و نسج اختلافها في وحدة منسجمة ، تتعالى على الانتماءات القبلية أو الدينية أو الحزبية الضيقة ، و الإحن العرقية الفجة .

يُمثّل كتاب ستيفانو ماريا توريللي الصادر بالإيطالية بعنوان "تونس المعاصرة" قراءةً معمّقةً للأوضاع السياسية والاجتماعية بتونس في الوقت الراهن. ولعل أهمية قراءة توريللي في تعبيرها عن وجهة نظر غربية متابعة للأحداث في هذا البلد، بعيدا عن الرؤى العربية المحاصَرة بين مناصرة الثورات التي شهدتها جملة من البلدان ومعاداتها. فالباحث من المتخصّصين الإيطاليين في الشأن التونسي، علاوة على كونه يدرّس تاريخ الشرق الأوسط السياسي في كلية اللغات والإعلام في مدينة ميلانو، وقد سبق له أن أصدر جملة من الأبحاث القيّمة في الشأن نذكر منها "الربيع العربي: التداعيات والآثار" (2012)، فضلا عن كونه من المساهمين بانتظام في صحيفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية بتحليل القضايا العربية.

لقد كان الكلام في الإمامة، في الأصل، جزءا من الصراع السياسي بين الشيعة والسنة، وكان الهدف منه إضفاء الشرعية –أو نزعها-على تجارب في الحكم ماضية. ولما أخذ هذا الماضي في الابتعاد عن الحاضر صار الكلام في "الخلافة" عند أهل السنة، وفي "الإمامة" عند الشيعة"، يميل أكثر فأكثر نحو تبرير الواقع الذي يفرضه ميزان القوى في الصراع من أجل السلطة. كان الصراع سياسيا محضا ولم يكن الدين فيه طرفا، لا على مستوى النصوص ولا على مستوى ما قد يكون هناك من تناقض بين من يتحدثون باسم النصوص ومن يمارسون الحكم. أما في التجربة الحضارية الأوربية فالصراع الذي منه خرجت فكرة العقد الاجتماعي وفيه تطورت كان صراعا من نوع آخر، صراعا بين قطبي هذه التجربة في العصور الوسطى: الدولة والكنيسة. ومن هنا يمكن القول، كجواب عن السؤال الذي طرحناه آنفا، إذا كان لا بد من جواب: إن مبدأ "عقد البيعة" في الإسلام لم يتطور إلى "عقد اجتماعي" بالمعنى الأوربي للكلمة لأن الإسلام لم يعرف الكنيسة كهيأة دينية اجتماعية لها السلطة الروحية وتنافس الدولة على السلطة الزمنية.

ترددت في السنوات الأخيرة في الساحة الفكرية العربية نداءات تدعو إلى صياغة وإبرام "عقد اجتماعي عربي جديد". ونحن هنا لا نرمي من وراء هذه "الهوامش" إلى الدخول في مناقشة مضامين هذه الدعوات! كل ما نهدف إليه هو إلقاء بعض الضوء على هذا المفهوم -"العقد الاجتماعي"- كما طرح ووظف في تاريخ الفكر الغربي مع الإطلالة على الكيفية أو الكيفيات التي طرح بها هذا المفهوم نفسه، أو ما يوازنه أو يرتبط به نوعا من الارتباط، في الحضارة العربية الإسلامية.
ولكي نقترب من صلب الموضوع منذ البداية نرى من المفيد التذكير بأن مفهوم "العقد الاجتماعي" هو فرضية –قد يكون لها أساس ما في الواقع البشري أو لا يكون- كان الغرض منها تأسيس السلطة السياسية على رضى المحكومين، وبالتالي بيان كيف نشأت الدولة وكيف يمكن تأسيس الديمقراطية، كما سنرى لاحقا.

" الناس لايقتلون من اجل فصل السلط بل من اجل الكرامة و الحقوق " الان تورين ، العالم البارز في علم الاجتماع
حقوق الانسان هي ثقافة تتضمن مجموعة من القيم و المبادئ الموجهة للسلوك الانساني ، كما تتضمن صورة معينة عن الانسان و المجتمع و السياسة . ففكرة حقوق الانسان تطورت عبر مسار طويل حيث يعتبرها René Casin [1] ، علما يرتكز على الدراسة و البحث وفق الكرامة الانسانية : " علم حقوق الانسان يمكن تعريفه كفرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية ، موضوعه هو دراسة العلاقات القائمة بين الاشخاص وفق الكرامة الانسانية مع تحديد الحقوق و الخيارات الضرورية لتفتح شخصية كل كائن انساني " .
وتعتبرها الامم المتحدة : " تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا ، و التي بدونها يستحيل علينا ان نحيا كبشر ".
     تقوم ثقافة حقوق الانسان على قيم جديدة كالحرية ، بل الحريات : الرأي ، الضمير ، التجمع ، التنقل، الانتماء . فجوهر الحقوق و مسلماتها الاساسية هي حرية الكائن البشري و حقه الاساسي ، و من ثمة فمنظومة حقوق الانسان مثلما انها بنية قانونية لترسيم هذه الحرية و بيان حدودها و تقاطعاتها ، فإنها منظومة اخلاقية ايضا ...

تجتاح العالم كل لحظة أكاذيب من النوع الذي يسميه جون. ج. ميرشيمر " الكذبات الاستراتيجية"، أي صيغ التلفيق و التصريحات الخادعة و المتحررة من كل قيد أخلاقي، والتي يضطر الساسة و الزعماء لاقترافها حرصا على المصلحة، وتجاوبا مع عالم مليء بالمخاطر. و لا يمكن تفسير أي حدث سياسي دولي بمعزل عن التفكير في الكذب ومبرراته المنطقية، ومنافعه المحتملة التي تحمل السياسي على ارتكابه، إن على مستوى الشأن المحلي للبلد أو على مستوى السياسة الخارجية.
إن قلة الأبحاث العلمية التي تعالج بوضوح مسألة الكذب في السياسة الدولية، وترصد تكاليفه وتأثيراته على العلاقات الدولية كانت حافزا لجون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، وأحد ألمع الباحثين الأمريكيين في السياسة الخارجية، لإصدار كتاب يقترح من خلاله أطرا تحليلية توفر أطروحة نظرية عن الكذب في الإطار الدولي، وتُعرف بقائمة الأكاذيب التي تساير التقلبات الدولية، لكنها لا تخلو من ضرر وأثر سلبي على الجبهة الداخلية.