مقدمة
سلافوي جيجيك فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني معروف بنهجه الفريد في التعامل مع النظرية الماركسية والتحليل النفسي. وقد ألف العديد من الكتب حول مجموعة من المواضيع بما في ذلك الإيديولوجية والسياسة والثقافة الشعبية. إن عمل جيجيك وثيق الصلة بمجال الفلسفة بسبب نهجه المتعدد التخصصات في التعامل مع النظرية وقدرته على الاستفادة من مجموعة متنوعة من التقاليد الفلسفية. وهو معروف بشكل خاص بمساهماته في النظرية الماركسية والتحليل النفسي، وقدرته على الجمع بين هذين المجالين بطرق مبتكرة. كيف تمكن جيجيك من الجمع بين فلسفة هيجل وعلم التحليل النفسي عند لاكان؟

أهمية الهيجلية واللاكانية في عمل جيجيك

إن الهيجلية مهمة بشكل خاص في عمل جيجيك بسبب تأكيدها على الديالكتيك ودور التناقض في تشكيل التطور الاجتماعي والتاريخي. يستعين جيجيك بالديالكتيك الهيجلي في تحليله للظواهر الاجتماعية والسياسية، ويستخدم هذا الإطار لانتقاد الأيديولوجيات السائدة وبنى السلطة. كما أن اللاكانية تشكل أهمية بالغة لفهم مساهمات جيجيك الفلسفية، حيث يعتمد بشكل كبير على التحليل النفسي اللاكاني في تحليله للذاتية والرغبة. وكان عمل جيجيك على النظرية اللاكانية مؤثرًا في تشكيل المناقشات المعاصرة في الفلسفة وعلم النفس والدراسات الثقافية. فكيف تواجدت الهيجلية في عمل جيجك؟

تفسير جيجك للديالكتيك الهيجلي

في تفسير جيجك للديالكتيك الهيجلي، يؤكد على أهمية نفي النفي في عملية الرفع. وهذا يعني أن التركيب الذي ينشأ عن العملية الديالكتيكية لا يشمل فقط الجوانب الإيجابية للأطروحة والنقيض، بل ينفي أيضًا نفيهما، ويدمج التناقضات والتوترات التي كانت موجودة في المعارضات الأولية. يختلف تفسير جيجيك للديالكتيك الهيجلي عن التفسيرات التقليدية في أنه يضع المزيد من التأكيد على دور السلبية والتناقض في العملية الديالكتيكية. كما يرفض فكرة أن العملية الديالكتيكية تؤدي إلى حل نهائي أو توليف، ويجادل بدلاً من ذلك بأنها عملية رفع مستمرة لا تنتهي أبدًا. إن تفسير جيجيك للديالكتيك الهيجلي أمر بالغ الأهمية لعمله الفلسفي، لأنه يسمح له بالتوفيق بين التناقضات والتوترات التي تنشأ عن المناهج الفلسفية المختلفة. وهو يستخدم هذا النهج لتطوير وجهة نظره الفريدة حول مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك السياسة والأيديولوجية والتحليل النفسي.

 الوجود إذن حقيقي لأنه حضور خالص معلن عنه بكلمة أوسيا (ousia) (Anwesenheit). كلمة ousia التي تم الترويج لها كجوهر عبر تاريخ الفلسفة لا تعني شيئا آخر غير الحضور بمعنى محدد، يتعلق ب"الإدراك". باتباع مجموع هذه العلاقات بين الوجود، الحقيقة، الحضور، الجوهر. الحرية نجد مشكلة الزمانية التي تركها بيليدور جانبا لأن توضيح هذه المشكلة يمكن أن يقوده إلى الاقتراب من هايدجر الثاني الذي أجل الحديث عنه إلى دراسة أخرى. إن فهم الوجود كحضور وحقيقة يعني فهم الحضور نفسه كخاصية للزمنية. مجموع هذه العلاقات يشكل ما نسميه: تناسق الفكر الهايدجري. ومع ذلك، يريد منا هايدجر أن ندرك أن السؤال الحاسم حول "معنى" الوجود، السؤال الأساسي في "الوجود والزمان"، أي السؤال عن مدى الإسقاط، بكلمات أخرى، عن الانفتاح، أو حتى عن حقيقة الوجود، وليس فقط الوجود، لم يتم تطويره فيه بشكل متعمد.
ومع ذلك، ينعقد فيه الفكر بشكل ظاهر على طريق الميتافيزيقا لكنه لا يحقق بقدر أقل خطواته الحاسمة - عندما ينتقل من الحقيقة كمطابقة إلى الحقيقة المنفتحة ومن هذه إلى اللاحقيقة كإخفاء وتيه، ثورة تؤدي، وفق هابدجر، إلى تجاوز للميتافيزيقا. المعرفة المكتسبة هنا تكمن في هذه التجربة الحاسمة: إنما انطلاقا من الدازاين فقط، الذي ينخرط فيه الإنسان، يتهيأ بالنسبة إلى الإنسان التاريخي القرب من الوجود. تتم متابعة حقيقة الوجود ك"أساس" لموقف تاريخي جديد، غير أن كتاب "في ماهية الحقيقة" يعيد التفكير فيها انطلاقا من هذا الأساس الجديد (من الدازاين). إن الصيغ اللغوية التي جرى بها التساؤل تشكل في ذاتها توجه فكر، بدل ان يمنحنا تمثلات ومفاهيم، يمتحن (مبني على المحهول) ويتعزز كثورة العلاقة بالوجود. في المقدمة حددنا لانفسنا هدفا؛ ألا وهو تبيان أن الحقيقة والحرية من حيث ماهيتهما بحسب هايدجر تكونان نفس الشيء الواحد وتشكلان على نحو مطلق البنية الأنطولوجية للإنسان. هل حققنا هدفنا؟ هذا ما سنحاول البرهنة عليه في الخاتمة التالية.
يريد الكاتب أن يبين، كما وعدنا في ورقته التمهيدية، ان الحقيقة والحرية تشكلان على نحو مطلق البنية الوجودية للإنسان وتكونان الوحدة مأخوذتين في جوهرهما. لتحقيق ذلك سوف نتبتى في هذا الجزء الأخير من هذا الدراسة تمشيا ذا بعدين اثنين (1) بعد أنطولوجي للحرية، و(2) بعد لاهوتي. وفقا للبعد الأول، سنحاول التفكير في جوهر الإنسان، مثل هذا التفكير سيسمح لنا بأن يبين لنا بشكل أفضل بماذا يجد الإنسان بحسب بنيته أساسه في الحقيقة والحرية. وفق البعد الثاني سنقدم من جهة القطب اللاهوتي الذي يحتوي على الرسالة الهايدجرية. باستعمال المنهج المقارن، سوف نبين، دون تفسير مفصل أن رسالته، حتى لما هايدجر، في بحثه عن حقيقة الوجود، لم يضعها نصب عينيه، محور بحثه حول وجود الإله الإنجيلي، تتوافق تماما مع الخطاب الإنجيلي عن الحقيقة. من ناحية أخرى، سوف نتناول التزام هايدجر القومي-الاشتراكي، مع الأخذ في الأعتبار إصرار فكره على العلاقة: الوجود-الحقيقة-الحرية. لنبدأ مقاربتنا بتقديم البعد الأول.

تقدم هذه المقالة التي كتبها سيمون فيتزباي نظرة عامة على وجهات النظر المختلفة حول العبرمناهجية. جرى تصور هذه الفلسفة لأول مرة في أعمال جان بياجيه وإيريش يانتش وأندريه ليشنروفيتش، وقد خضعت لسلسلة من التحولات والتطورات المفاهيمية التي ساعدت في تحديد هذه الممارسة بشكل أفضل. سنلاحظ مع الكاتب كيف أدت أعمال مورين ونيكولسكو وجيبونز إلى نشوء وجهات نظر جديدة عبرمناهجية ترجمت إلى العديد من الأعمال ذات الأهداف الإنسانية والوظيفية.  بعد ذلك، قام سيمون بإجراء جرد موجز للانتقادات والقيود الرئيسية المرتبطة بالممارسة العبرمناهجية والتي توضح وجود مسافة معينة بين النهج النظري للعبرمناهجية وتطبيقها الحقيقي.

نص المقال:

مقدمة

إن الموقف الفكري الذي اتخذته الممارسة العبرمناهجية جسد، عند تصوره، ثورة حقيقية في مجال الأفكار، فضلاً عن تعبير جديد عن مثال عالمي وإنساني. يهدف هذا المقال البحثي إلى عرض تطور مدارسها الفكرية. واود اقتراح مراجعة الكتابات حول هذا الموضوع من أجل إنشاء صورة خطية للتعريفات والمفاهيم المختلفة للعبرمناهجية. يتعلق الأمر بنظرة عامة وشكل معين من جولة تاريخية نظرية بالضرورة بين الأفكار. وأريد أن تكون هذه المقالة بمثابة مقدمة للمنظور العبرمناهجي. ولهذا أقترح استعراض المقالات النظرية حول العبرمناهجية من أجل تقديم تطور فكرتها ومفهومها.

سأقدم أولاً أصولها التي تظهر من خلال الكتابات حول العبرمناهجية. هذه "الموجة الأولى من العبرمناهجية" مثلها بشكل رئيسي جان بياجيه، وإريك يانتش، وأندريه ليشنروفيتش، الذين اعتبروا أول من روجوا لهذا المفهوم. ناضل هؤلاء المؤلفون من أجل عبرمناهجية باعتبارها تسلسلاً منطقياً للبيمناهجية، مبطلين الادعاء الوضعاني بالتفوق، المنافسة والانفصال بين التخصصات.

سوف أساير بعد ذلك "الموجة الثانية من العبرمناهجية" التي أدت إلى تجسيد ومأسسة شكل محدد من الفكر العبرمناهجي. ويرجع هذا، من بين أمور أخرى، إلى أعمال إدغار موران وباسارب نيكولسكو، وكلاهما من الأعضاء المؤسسين للمركز الدولي للبحوث والدراسات العبرمناهجية (CIRET)، وكلاهما وقع على ميثاق العبرمناهجية. وسوف أناقش أيضا المساهمة المهمة التي قدمها جيبونز وزملاؤه، الذين قاد عملهم إلى اتباع مقاربة وظيفية للعبرمناهجية، نضع استراتيجية تعاونية بين الباحثين والمجتمع.

تمهيد
يعد فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن (الذي صدر عام 1936) بلا شك مرجعًا للفلسفة والفن والثقافة والسينما نظرًا للفلسفة الاجتماعية الدقيقة المقدمة فيه. تُظهر الصورة الأولى للفيلم ساعة عملاقة يتحرك فيها عقرب الثواني بلا هوادة نحو أعلى الساعة. والرمز واضح: يعيش الناس تحت طغيان الزمن الذي يتم قياسه ميكانيكيا - دكتاتورية الساعة. تمثل هذه الساعة تجريد الإنسان الحديث من إنسانيته وطبيعته. فماهي خصائص الفلسفة الاجتماعية التي يتضمنها فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن؟ وما دلالة ذلك اليوم؟

نظرة عامة

يتدفق العمال خارج محطة المترو ويهرعون نحو المصنع مثل القطيع. واحد فقط من هؤلاء الأغنام، البطل، قد اسودت بسبب الأوساخ من المصنع، وهو رمز لاختلافه والدور الذي سيتعين عليه أن يلعبه. تتم أعمال خط التجميع في مصنع آلي للغاية، ويديره شخص بعيد وغامض، يشرف عليه باستخدام شاشات كبيرة، إشارة إلى بعده عن العمال. يتمثل دور البطل، على السلسلة، في شد البراغي على الألواح. مثل زملائه العمال، يصبح البطل ميكانيكيًا لمتابعة إيقاع الإنتاج بأفضل ما يمكن، في حين أن أدنى إلهاء يمكن أن يبطئ الخط. البطل غير قادر على التفكير، فهو مجرد امتداد للآلة، روبوت. لقد جرده المصنع من حسه النقدي، أي من إنسانيته. فكيف يمكن قراءة أحداث الفيلم من الناحية الفلسفية؟ وهل يمكن نقده ثقافيا؟

فكرة الفيلم

للوهلة الأولى، يبدو فيلم "الأزمنة الحديثة" وكأنه محاكاة ساخرة للفوردية، هذا النمط الجديد من الإنتاج الذي ابتكره هنري فورد، على أساس التخصص وتقسيم المهام من أجل زيادة إنتاجية العمال. لكن الفيلم ليس له نطاق اقتصادي تجاري استهلاكي فحسب، بل له هدف اجتماعي نقدي: الدفاع عن الإنسان كإنسان.

شابلن وماركس

يدين "شابلن" الاغتراب، متخذًا بذلك موضوعًا عزيزًا على كارل ماركس، لم يولده العمل في خطوط التجميع فحسب، بل أيضًا النظام الاقتصادي الرأسمالي بأكمله. وبما أن الإنسان لم يعد يمتلك أو يحوز على السلع التي ينتجها، فإنه لم يعد ينتمي إلى نفسه. فيصبح غريبا عن نفسه، قوة عمل خالصة تحت رحمة أصحاب وسائل الإنتاج. ومع ذلك، فإن "شابلن" لا يدافع عن الاشتراكية، ولا يحدد الخطوط العريضة للحل الاجتماعي، وفيلمه هو في الأساس استنكار وسخط على الرأسمالية وتعرية لسلبياتها وتشهير بها. وهناك موضوع ماركسي آخر، وهو الصراع الطبقي: يجسد "شابلن" علاقات الإنتاج بطريقة فظة إلى حد ما. العمال في أسفل الخط، والمديرون في القمة. لكن يبدو أن "شابلن" يشير إلى أن الجميع ضحايا لنفس النظام، فحتى المخرج يتناول حبوبًا لمقاومة الضغوط التي تفرضها البيئة. لماذا وقع الاختيار على عنوان الأزمنة الحديثة للفيلم؟ وما تأويل ذلك؟

مقدمة
ليست الفلسفة سؤالا عن الوجود فحسب، بل هي تمرد على "الوجود المفترض". ففي ثقافة تقدس اليقين كدين مواز، يصير التشكيك جريمة، والتفكر خيانة! لكن أي هوية هذه التي تخشى الفكر حتى تعلن الحرب على روح ابن رشد؟ أليست الهوية الحقيقية هي التي تنبض بتناقضاتها، لا التي تحنط تحت راية الإجماع المزيف؟ لقد حولوا التراث إلى سجن للعقل، ونسوا أن ابن سينا نفسه كان "زنديقا" في عين من يرفعون اسمه اليوم دون فهمه. الفلسفة هنا ليست ترفا، بل مقاومة وجودية ضد من يسرقون السماء ويبيعونها أوهاماً.  

الإجماع في الفقه السياسي ليس حوار عقول، بل هو طقس لتصنيع الطاعة. لقد سخروا "التوافق" ليكون غطاء ميتافيزيقيا لاستبداد دنيوي بائس: فكل مخالف يرمى بالشذوذ، وكل صوت حر يهشم باسم "وحدة الجماعة". لكن أي جماعة هذه التي تختزل نفسها في صوت الحاكم أو الفقيه؟ لقد حولوا الشرعية إلى لعبة ميتافيزيقية، حيث يقدم القمع كحكمة إلهية، ويلبس الخوف من المختلف ثوب "حماية الدين". إنه إجماع السلطة، لا إجماع الحقيقة.

كيف لتراث أنجب ابن رشد — الذي أضاء عصر الأنوار الأوروبي — أن يتحول إلى سجان للعقل في أرضه؟ لقد صرنا أمام كارثة ثقافية: ماض يشيد تماثيله ويحرق في الوقت نفسه كل من يحمل روحه. ابن سينا وابن رشد لم يكونا "أبطال تراث" بل كانا ثورتين على التقاليد المتحجرة. أما اليوم، فيستخدم اسمهما كشاهد دفاع عن ثقافة القمع ذاتها التي حارباها. أليس هذا انتحاراً حضارياً؟

الإجماع — من أداة فقهية إلى أسطورة مقدسة  

لم يكن الإجماع في أصله سوى رد عقلي على فوضى السلطة بعد ارتداد الخلافة الراشدة إلى ملك عضود. ففي ظل غياب مرجعية دينية مركزية، برزت فكرة "اتفاق العلماء" كحاجز واق من التشرذم. لكن هذا الحل الوظيفي تحول بدقة حرفي إلى سلطة مطلقة تتكئ على الميتافيزيقا.  

ففي القرن الثالث الهجري، مع تشعب المذاهب وانفجار الجدل العقيدي، لم يعد الإجماع آلية لتنظيم الخلاف، بل أصبح أداة لإسكاته. هنا، تجلت مفارقة تاريخية: فبدلًا من احتضان التنوع، تم توظيف الإجماع لتكريس هيمنة رواية الأغلبية، حتى لو كانت تعبيرًا عن إرادة السلطة السياسية أو الطائفية. فالإجماع، بهذا المعنى، لم يكن "حكمة الجمع"، بل "قبضة الجمع".  

العقل والتفكير

 الانحياز للعقل دوما يجعل من كل شيء مادة. وتصبح مقولة هيجل صحيحة لاول وهلة قوله كل ماهو عقلي واقعي وكل ماهو واقعي عقلي. ولما كان من خصائص المادة الامتداد والشمولية يصبح كل ما يحس به العقل هو مادة. وهذا الاستنباط خاطيء بدليل ان كل الاحاسيس الداخلية التي يتلقاها العقل من جسم الانسان هي ايعازات اشباع بيولوجية غرائزية وليست مادة. عليه تكون مقولة هيجل كل ماهو واقعي عقلي ناقصة من حيث لا يمكن تعميمها على كل مدركات العقل بخاصة في مدركاته لمواضيع الخيال فهي ليست واقعية.

هذا المعنى يجعل الفيلسوف الفرنسي لامتري يذهب وجوب ارجاعنا ميتافيزيقا الروح للمادة. ويدين لامتري الفيلسوف الالماني عالم الرياضيات المتديّن لايبنتيز قوله وجوب ارجاع المادة الى روح. مرجعية لايبنتيز تلتقي مرجعية باسكال محاولتيهما تطويع المفاهيم الفلسفية لتبعية اللاهوت المسيحي. والاكثر غرابة أن كليهما باسكال ولايبنتيز رغم تطرفهما اللاهوتي يصنفان على انهما فيلسوفان وجوديان يتبعان الفلسفة الوجودية الغربية.

بضوء مستجدات اختراع الفلسفة لمبحث التحول اللغوي ونظرية المعنى وتصبح فلسفة اللغة الفلسفة الاولى بعد الهجوم الكاسح على مبحث الابستمولوجيا وازاحتها عن طريقها تماما منتصف القرن العشرين. قادت فلسفة اللغة اختراع نظرية السقوط في مركزية خيانة اللغة للمعنى وبالتالي أصبح تضليل العقل واردا جدا في عجزه التعبير اللغوي عن مدركاته لغويا تعبيرا صادقا.

لو نحن بضوء ما مر ذكره نحاول الوصول الى الحقيقة حول خيانة اللغة للمعنى نجد ان منطق تفكير العقل يقودنا الى ان خطا العقل بالتفكير يسبق خطا اللغة في التعبير. وخيانة اللغة للمعنى لا تسبق خيانة العقل للفكر. تضليل العقل لا يكون في تعبير ازدواجية خيانة اللغة للمعنى. بل في تضليل الحواس للعقل في تزويده بانطباعات اولية غير حقيقية ولا صادقة وقتية زائلة على حد تعبير ديفيد هيوم ما يجعل تشتيت تفكير العقل في التعبير اللغوي قاصرا في الالمام الكامل بمدركاته. هيوم اعتبر تجيير الانطباعات الاولية الصادرة عن احساسات العالم الخارجي كخزين معرفي للذهن هراءا والمعوّل عليه الافكار التي مصدرها العقل.

لو اجرينا مقارنة فسلجية وظائفية في الفرق بين العقل والذهن نجد العقل هو مرادف بيولوجيا المخ. اما الذهن حتى وإن التقى بخاصية التفكير والوعي العقلي الا انه يبقى افتراض غير عضوي.

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة) ليست محايدة بل تغييرية. وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى لكليهما.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف جوهري بينهما. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه فهو ليس موضوعا بل دلالة وكذا الحال مع الزمن. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا وكان يقصد مطلق الوجود كمفهوم وليس الموجود الانسان.

ليس غريبا أن نجد بالفلسفة مثل هذه المفاهيم التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي كماهية خاصيتها التفكيروليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية أن نقر بوجود عقل انساني ابدا.

علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد الذي ماهيته التفكير وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن (المفهوم) عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان.  وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون واجاز لنفسه الادراك المكاني في عدم تعالقه الافتراضي مع الزمن. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان.(لي مقالتان منشورتان اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الافتراضية الحيادية للمكان).

تمهيد

"هناك القليل من الحقائق المطلقة "

يبدو معنى هذا المصطلح، منذ البداية، ملتبسًا وجدليًا بالضرورة. والمطلق هو المرتبط بالنسبي وضده، فهو بالتالي منفي. لكن المفهوم الذي تغيب عنه فكرة العلاقة يتم إزالته من القيود، ويتحرر من الاختلافات، وبالتالي يعين، بشكل إيجابي، المكتمل، والكمال. وبالتالي فإن هذا الغموض الدلالي ليس مسألة تردد في المفردات: فهو يشير ضمنا إلى صعوبة تفتتح الجدل الفلسفي الذي أثاره هذا المفهوم. هل المطلق له معنى أم لا، هل هو موجود أم لا؟ وبما أن المطلق يعني غير مشروط، مبدأ بلا مبدأ، فإن المطلق يصبح موضع تساؤل من خلال أي بحث عن الحقيقة، فإن كل نظام فلسفي يعبر عن مفهوم معين لها. في السياق اللاهوتي، فإن مسألة وجود الله أو غيابه، أو إثباته أو نفيه، هي التي تطرحها كلمة "مطلق". لكن في الوقت نفسه، بما أن المطلق يعني ما هو في ذاته، بشكل مستقل عن أي شيء آخر، فإن مشكلة الحرية، سواء كانت ملموسة أو وهمية، تطرح معها. فما دلالة المطلق؟ أين يكمن؟ وماهي تجلياته؟ وما قيمته؟

مفهوم المطلق

أصل الكلمة يردع الى الكلمة الإنجليزية absolute  والتي جاءت من الكلمة الفرنسية "absolut"، والتي نشأت من الكلمة اللاتينية "absolutus"، وهي صيغة الماضي من "absolvo"، وهي فعل، وتعني "التحرير، والإنهاء، والاكتمال"، و"الانفصال، والنقاء". كما يشير مصطلح المطلق إلى غير المشروط و/أو الاستقلال بالمعنى الأقوى. ويمكن أن يشمل أو يتداخل مع المعاني التي تنطوي عليها مفاهيم أخرى مثل اللانهائية، والشمولية، والكمال. وفي اللاهوت المسيحي، يُنظر إلى المطلق على أنه مرادف أو صفة أساسية لله، ويميز طبيعة أخرى لله مثل حبه وحقيقته وحكمته ووجوده (الحضور في كل مكان) ومعرفته (العلم بكل شيء) وقوته (القدرة المطلقة) وغيرها. فالحب المطلق، على سبيل المثال، يشير إلى حب غير مشروط على عكس الحب المشروط والمحدود. وعلى نحو مماثل، يمكن فهم المطلق أيضًا على أنه الكائن المطلق، أو سمة منه، في التقاليد الدينية الأخرى. لم يشرح الفلاسفة اليونانيون صراحةً المطلق، لكن فكرة المبدأ النهائي دفعت استفساراتهم إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، في حين لم يستخدم الفلاسفة في العصور الوسطى مصطلح المطلق، كانت أفكارهم حول الله هي أول شرح صريح للمطلق. منذ ذلك الحين، كانت هناك العديد من التفسيرات للمطلق. من بين الفلاسفة الرئيسيين الذين تعاملوا مع المطلق المثاليون الألمان مثل شيلينج وكانط وهيجل، والفلاسفة البريطانيون مثل هربرت سبنسر وويليام هاملتون وبرنارد بوسانكيت وفرانسيس برادلي وتوماس هيل جرين، والفيلسوف المثالي الأمريكي جوشيا رويس.

بالفعل، أن يكون الوجود مدركا أو غير مدرك بشكل صحيح، مسؤولا، محددا، فهو قبل كل ذلك لامتحجب ومُتحجب قبلا وباستمرار في جوهره. والآن لم يبق لنا سوى أن نحاول، اعتمادا على روبنس بيليدور، شرح اللحظة الثانية من العلاقة بين الوجود والحقيقة، ولكن هذه المرة، سيتعلق الأمر بالحقيقة الأنطولوجية المفهومة كلاتحجب-تحجب.

كلما تعلق الأمر بمعنى الوجود، إلا وقلنا أن الوجود في اختباره الأصلي هو phúsis - لاتحجب منبثق عن تحجب، تدبير مصدره الانسحاب (انظر ص76 في النص الأصلي). ولكن يبدو أن هناك تناقضا بين هذا "الانسحاب" للوجود وبين انفتاحه. بين اختفاء ومجيء. بالفعل، بما أن هايدجر يحيل إلى الإغريق لتوضيح فكره، نسمح لأنفسنا بالرجوع إلى هذا القولة لهيراقليطس هذا من أجل توضيح تقريرنا: "الطبيعة تحب الاختفاء". لكن إذا كانت "الطبيعة" (أي الوجود في جوهره) تحب أن تختبئ، فلنسأل أنفسنا كيف يمكن أن ينكشف مثل بيان "في ذاته"، وإذا بان فكيف يختفى عن ذاته؟ إنما هنا يجب علينا أن نكون حذرين حتى لا نسيء التفسير، ولو ان أرسطو سبق أن حذرنا من مبدأ عدم التناقض، وهو أن الشيء لا يمكن أن يكون هو نفسه ونقيضه في نفس الوقت. ما ينبغي فهمه هو أن الامر لا يتعلق ذلك سوى قطبين لنفس الظاهرة. الوجود لكونه بالضبط نورا لكل شيء، بحسب برتراند ريو، يمحي في ما يضيئه. ليس تحجباً خالصاً وإلا لن يستطيع الموجود ابدا أن يظهر كالموجود في الوجود ولن يكون فيه وقوع في الموضوعية. لنفهم أن العبارة: "الطبيعة" تحب الاختفاء تعني أن التحجب واللاتحجب ينتميان معا إلى الوجود في جوهره.

لنضع في اعتبارنا دائما مفهومنا عن الحقيقة (alèthèia). ماذا تقول لنا هذه الكلمة، أليثيا؟ تقول لنا أولاً اللاتحجب واللاختفاء. بتعبير أدق، تقول الخروج من الèthè، الانبجاس إلى الظهور، القدوم إلى الحضور. أليس هذا هو نفس التعريف الذي أسندناه إلى كلمة phúsis، التعريف الذي طلبنا الاحتفاظ به في الذاكرة؟ عندما نقارن بين هذين التعريفين، ألا يمكننا ان تؤكد على وجه اليقين أن الوجود والحقيقة هما من نفس الطبيعة؟ بهذه الكلمات نفسها، تجعل alèthèia ممكنًا شرط معرفة الموجود، الphúsis ذاته وفقًا لتحديده الخاص، أي وفقًا لانفقاس الموجود في وجوده. ولأن alèthèia تعني أولاً وخاصة اللاتحجب، فهي تعني أيضًا وفي ارتباط وثيق الوجود الحقيقي لما هو لامتحجب على هذا النحو. األيثيا هي إذن ما خرج من الكمون أو الإختفاء. الاختفاء ليس نقصًا أو حرمانًا لوجود قد يكون في ذاته نورًا كاملاً في حد ذاتها، إنه الطريقة ذاتها التي بها يجعل الوجود نفسه معروفا، إنها- أي بها يعيش جوهره الكامل (Wesen)، كحضور لكل الحاضرين (AnwesendenJ). فالحضور باعتباره كذلك لا يأتي إلى الظهور، بل الحاضر يشعر بأنه متجمع فيه. إنما بهذا المعنى يحمل في طياته تحجباً معيناً.

عند تحليل كلمة alèthèia، نجد أنها مكونة من حرف زائد a والجذر lèthè الذي يعني النسيان. ما يريد هايدجر أن يفهمنا إياه هو أن هذه الـ"a" الزائدة هي في الواقع مزدوجة إيجابيا: من جهة، لأنها بمثابة إشارة إلى خاصية جوهرية لما هو لامتحجب، بمعنى أن هذا الأخير لا "يكون" إلا باعتباره "منتزعا من الاختفاء"، إلا باعتباره "مسروقا" منه وبهذه الشروط تحدث قبلا "الوجود والزمان" عن اللاتحجب، مضيفا أنه كان لا بد من تصوره ك"اختطاف". من ناحية أخرى، لأنه في ما وراء الlèthè، في التحديد الأساسي للأليثيا، يشير a الزائد إلى انتشار الليثي ذاته في الأليثيا، طالما أن الاختفاء منذ البدء يحكم جوهر الوجود بالكامل.

هكذا إذن، يصبح عند هايدجر تاريخ الفكر الغربي بأكمله تأكيدا على "أن الوجود يقدر لنا، لكن بطريقة تجعله ينسحب في نفس الوقت إلى جوهره". هذا اللغز للكينونة الذي قاربه هيراقليطس وساءله هايدجر، هو أن الانعطاء لا يكون إلا بالانسحاب. الوجود في اختباره الأصلي هو Phúsis - لاتحجب منبثق عن التحجب، تدبير مصدره الانسحاب، الذي سنحاول القيام بتطويره من خلال تقديم العلاقة بين الوجود والحقيقة في ما يلي.

وبما أن الحقيقة الإسنادية قد تم تجاهلها، وتحديها من قبل هايدجر، فإن العلاقة سوف تأخذ في الحسبان فقط الحقيقة الأنطيقية والحقيقة الأنطولوجية. يتحدث هايدجر بلا كلل في عدة نصوص عن "انسحاب الوجود"، عن "لغز الوجود"، لكن هل يمكن فهم هذا اللغز للوجود؟ لقد رأينا للتو أن الوجود لا هو قابل للإدراك ولا هو ملموس ما دام أنه يظهر ماهيته وهو لا ينعطي إلا من خلال الانسحاب. من خلال انعطائه، كما نعلم، يستقر في الحضور. في الحضور ينكشف كما هو، ويستقر في الحقيقة. عندما انسحب، إلى أين لجأ؟ لقد لجأ إلى العدم. هذا هو المكان بالذات الذي يفسر عدم قابلية لغز الوجود للإدراك. وهذان التعبيران: (أ) الاستقرار في الحضور، و(ب) اللجوء إلى العدم سوف بسترعيان انتباهنا قليلاً.

لكن، قبل ذلك، نرى أنه من المفيد إيراد هامشين كتبهما بيليدور لتوضيح أمرين: اللغز والماهية. وهكذا يحدد الكاتب أن اللغز لا يكتسب هنا الدلالة الدينية التي تعطى له في أغلب الأحيان؛ لكنه يعبر عن تجربة الأليثيا باعتبارها لاتحجبا ولا إخفاء للوجود في ماهيته التي نفكر فيها هنا. أما المشكلة المتعلقة بالماهية، عند هايدجر، فلها دائما وجهان. في نفس الوقت الذي تذكر ما يتعلق بالماهية، فإنها تتضمن أيضا تعيين حدود ذلك الذي لا يندرج تحتها. تحديد الماهية ليس واضحا بذاته أبدا. بالنسبة إلى هايدجر، فالجوهر ليس طبيعة موجودة دائما في أفق معرفتنا. بل على العكس من ذلك، فهي مخفية في الأصل ولا يتم اكتشافها إلا من خلال جهد الفكر الذي اختار أن يذهب إلى ما هو أبعد من اليقينيات المباشرة للحس المشترك والممارسة العملية.

لنبدأ بالتساؤل باختصار شديد عن الكلمة الأكثر هشاشة؛ ألا وهي العدم، ما دام للحضور خاصية مسالمة. قلنا أعلاه أن الوجود قام بالانسحاب، انسحب إلى العدم. هذه الكلمة، كونها الأكثر هشاشة، سنستمر في استخدام هشاشتها للتأكيد على أن كل موجود بما هو موجود يأتي من العدم. ماذا يعني هذا التأكيد؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، نلتزم بأن نعلن أننا لن نقدم خطاباً مفصلاً، مسهبا أو مطورا حول ذلك العدم كما فعل هايدجر، ولكن بما أن هذه الدراسة تتناول ماهية الحقيقة وأظهرنا، تماشيا مع هايدجر، أن الحقيقة في جوهرها تحمل معها اللاحقيقة، نرى أنه من الضروري أيضا، في تقديم الوجود في جوهره، أن نقول كلمة قصيرة عن الجانب الآخر من الوجود، خاصة وأن هايدجر يتحدث عن انسحاب الوجود.

تمهيد

" "كل معرفة هي إجابة عن سؤال." غاستون باشلار

تهتم الفلسفة بمختلف التصورات التي يشكلها الانسان حول الكون ومن بين هذه التصورات نجد تصوراته حول الطبيعة والتي تم الاتفاق على تسميتها بالمعرفة العلمية ولكن هذه المعرفة العلمية اتخذت صبغة فلسفية حينما تراوحت بين النظري والتقني وبين الفكري والمادي وبين المثالي والواقعي . لقد انقسمت المعرفة العلمية من جهة المقاربة المنهجية للظواهر الى اتجاه عقلاني واتجاه تجريبي. فما الفرق بينهما؟ وماهي خصائص كل اتجاه؟ والى أي مدى نجحت الفلسفة في انتاج مغرفة علمية حقيقة بالعالم الخارجي؟

1- العلم منهج عقلاني

 تعريف العلم

يشير العلم إلى ما يوحد العلوم في مطلب واحد. إلا أنها تحمل معنيين: مشترك في أحدهما، وفلسفي في الآخر. بالمعنى العام، العلم هو المعرفة (وبالمعنى الواسع، هناك علم صيد الأسماك بالذباب أو البستنة أو المربيات) العلم بمعناه الفلسفي هو حكم يتعلق بالعالم (الفيزياء) أو بمجموعة من الافتراضات المنطقية (الرياضيات) ويضع قوانين هذا المجال بطريقة تعتمد على التحقق و/أو التماسك. ولأنه ينشئ المعرفة، فلا ينبغي الخلط بين العلم والمعرفة، ولا مع المعرفة. المعرفة خاصة، والمعرفة عامة وذات نطاق عالمي؛ المعرفة لا توفر أسباب فعاليتها، المعرفة يتم تأسيسها من خلال البحث المتعمق في الأسباب؛ المعرفة ليس لها بالضرورة تطبيقات عملية، إذ يتم تنسيق المعرفة مع "التمثيل" المحتمل. وهكذا عرف الإغريق والساكسونيون والفايكنج أن المد والجزر موجود، وبالعادة، كان بإمكانهم توقعه جزئيًا. ولكن لم نتمكن من معرفة سبب المد والجزر إلا بعد ظهور نيوتن وظهور الرياضيات، وتمكنا من التنبؤ بها بدقة كافية لإنشاء تقويم. من الصعب أن نجد قاسماً مشتركاً لجميع العلوم، فموضوعاتها تختلف كثيراً. يمكن أن يتعلق الأمر بالكائنات الحية (علم الأحياء)، أو المجتمع (علم الاجتماع)، أو بنية الكون (الفيزياء الفلكية)، أو العلامات اللغوية (علم اللغة)، أو القياس الكمي للتكرارات وحدوثها (الإحصائيات والاحتمالات). إن الكثير من التنوع في موضوعات الدراسة يؤدي إلى مناهج منهجية متنوعة، ومن الممكن العثور على اتساق في المنهج العقلاني مما يجعل من الممكن تعريف العلم بتنوعه.

 استنباط وتفسير الملاحظة

يتكون الحث من ملاحظة الحقائق لاستخراج قانون متكرر للسلوك. لكن الملاحظة ليست رؤية، فهي تتطلب انتشال النفس من خصوصيات الحساس لتأخذ بعين الاعتبار العناصر المشتركة والمتكررة فقط.

علم الاجتماع هو علم مراقبة السلوكيات المتكررة للرجال في المجتمع. كل واحد من هؤلاء الرجال يُنكر تفرده لصالح أخذ الأفواج في الاعتبار. إن علم الاجتماع، كما يقول دوركهايم، هو علم الملاحظة والفرضيات. لكن لا يمكن التحقق من الفرضيات من خلال بروتوكول تجريبي صارم، لأن الحقائق البشرية تعتمد على حرية الفاعلين، وهي غير قابلة للتكرار، وبالتالي غير قابلة للتجربة. ولذلك فهو ليس بروتوكولًا استنتاجيًا افتراضيًا، ولكنه عملية لتفسير تكرار السلوكيات المقاسة إحصائيًا. تعتمد العديد من العلوم الإنسانية على الأساليب العلمية في البحث التي تؤدي إلى تفسير النتائج، والتي تكون بطبيعة الحال موضع نقاش.