مقدمة
شاع استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استُخدم في البداية على ما يبدو في الفنون البصرية، ثم انتشر إلى مجالات أخرى، بما في ذلك الفلسفة واللاهوت. ليس من السهل تقديم تعريف عام لما بعد الحداثة. ولعلّ نهاية القرن العشرين، بما اتسم به من غموض في مسار التقدم والتراجع، قد خلقت عقلية "نهاية القرن"، حيث رفض الماضي ورغبة عارمة في البدء من جديد. ومن المرجح أن تكون الآمال والمخاوف التي تولدت في مثل هذه الفترة مبالغًا فيها. فماهية قيمة الوعي الانساني في زمن اللايقين والهشاشة والانسيابية والوعي؟ وأي دور للفلسفة في حقبة مابعد الحداثة؟

الانتقال من الحداثة الى مابعدها

نعيش حاليًا في فترة تاريخية تُسمى "ما بعد الحداثة". ما نُطلق عليه "ما بعد الحداثة" هو ببساطة ما حدث بعد الفترة التاريخية التي تُسمى "الحداثة". في التطور التاريخي للفلسفة الغربية، يُمكننا أن نشهد تحولات رئيسية مُختلفة. ما يُسمى عادةً بالفلسفة "الحديثة" بدأ مع ديكارت حوالي عام1630. يُمثل ديكارت انحرافًا عن فلسفة العصور الوسطى القديمة التي هيمنت على الفكر الأوروبي. يتميز الفكر القروسطي بتمسكه بالمرجعيات: الكتاب المقدس وأفلاطون/أرسطو. مع تطور الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر)، تم تقويض الاعتماد على المرجعيات الدينية. ومع تطور الكنائس البروتستانتية المُختلفة وتنافسها على السلطة مع الكنيسة الكاثوليكية القديمة، أصبح من غير الواضح أي كنيسة قد يكون لديها فهم صحيح للمسيحية. ومع تقدم العلم أيضًا، انهار نموذج أرسطو القديم للعالم. أدت هذه المُشكلة إلى ابتعاد ديكارت والعديد من المُفكرين الأوروبيين الآخرين عن الاعتماد على المرجعيات الدينية والكلاسيكية. ديكارت "حديث" لأنه يرفض الاعتماد على المراجع القديمة، ويبني حججه على العقل البشري. وهكذا، فإن الحداثة هي إدراكٌ لحدود المراجع القديمة والاعتماد، في المقام الأول، على العقل البشري. ومع تطور هذه النظرة "الحديثة" للعالم، فإنها تشمل العصر التاريخي المسمى "عصر التنوير" بتركيزه على القيم "العالمية" لأوروبا وأمريكا الشمالية الليبرالية والعلمانية والديمقراطية. عادةً ما تضم قائمة كبار المفكرين "الحديثين" رجالًا مثل غاليليو وجون لوك وإيمانويل كانط وإسحاق نيوتن. بلغت طريقة التفكير "الحديثة" ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر بموجة تفاؤل عارمة؛ إذ اعتقد العالم الغربي أن طريقته في التفكير العقلاني العلمي تُحوّل العالم إلى فردوس من الحرية والتفوق التكنولوجي. لقد انهار هذا التفاؤل في النصف الأول من القرن العشرين. عملت الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية مجتمعة كأزمة مستمرة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت فرنسا قد تعرضت للدمار الاقتصادي، وانهارت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية المجرية، وكانت ألمانيا في حالة خراب، وانهارت الإمبراطورية الروسية، وتوفي حوالي 15 إلى 20 مليون شخص في أوروبا نتيجة للحرب. ثم جاء الكساد الكبير (1929-1940) الذي كان أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث. لقد ترك عشرات الملايين من الناس بلا عمل أو دخل. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بحوالي 60 أو 70 مليون حالة وفاة. بلغت الأساليب العلمية العقلانية للعالم الغربي ذروتها بالقنابل الذرية القادرة على تدمير مدن بأكملها. كان استعداد العالم "الحديث" للانخراط في جنون "عقلاني" وعالي التقنية للتدمير الذاتي واضحًا بشكل مروع. بحلول عام 1945 كان العالم "الحديث" قد أصبح أطلالاً في مختلف أنحاء أوروبا ومعظم بقية أنحاء العالم. بدأ عالم ما بعد الحداثة بالتطور على أنقاض العصر الحديث. رأى بعض مفكري العصر الحديث المتأخر تصدعات في بنية العصر الحديث. رأى سورين كيركيغارد (1813-1855) أن عالمه أصبح بلا شخصية بشكل متزايد. رأى فريدريك نيتشه (1844-1900) أن العالم الحديث قد حوّل معظم أوروبا إلى مجرد "قطيع" فقد روحه المستقلة. على الرغم من هؤلاء المراقبين الأوائل المتحمسين، لم تبدأ ما بعد الحداثة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ترك الإيمان "الحديث" بالقيم العالمية للتقدم والعلم والديمقراطية جزءًا كبيرًا من العالم في حالة خراب. أدت أزمة أخرى إلى انهيار العصر الحديث؛ حيث اكتشف علم القرن العشرين حدوده. طُرح مبدأ اللايقين لهايزنبرغ لأول مرة عام 1927. كان فيرنر هايزنبرغ من أوائل مطوري فيزياء الكم. أثبت أنه كلما زادت دقة تحديد موضع جسيم ذري، قلّت دقة معرفة زخمه، والعكس صحيح. لم يكن هذا العجز عن المعرفة نقصًا في القدرة البشرية؛ فلم تكن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تحسين بأي شكل من الأشكال. رأى هايزنبرغ العالم كمكان تكون فيه بعض الأشياء، ببساطة، غير قابلة للمعرفة. تُعدّ مشكلة الفوتونات مثالًا آخر على كيف أن العالم نفسه يتجاوز العقل البشري. فالفوتونات هي في الواقع جسيمات ضوئية عند قياسها بطريقة ما، وفي الواقع موجات عند قياسها بطريقة أخرى. لذا، يبدو أن الهوية "الحقيقية" للضوء تعتمد على كيفية مراقبتنا بدلاً من حقيقة أساسية مستقرة. قوّضت سلسلة كاملة من الاكتشافات في الفيزياء خلال القرن العشرين اليقين العلمي للعالم "الحديث". كانت الفيزياء الأكثر تقدمًا في القرن العشرين تثبت أن طبيعة الواقع المطلق كانت في حد ذاتها غير مؤكدة. أثارت هذه المشكلة حفيظة ألبرت أينشتاين (1879-1955) الذي لم يقبل أبدًا تمامًا أن بعض الأشياء ستظل مجهولة إلى الأبد. بهذا المعنى، حاول أينشتاين الحفاظ على قيم العالم الحديث، لكن اتضح في النهاية أن للعقل البشري حدودًا. فماهي علامات مابعد الحداثة؟ وما صلتها بما سبقها من القوى التحديثية وهل ادت الى النكوص والماضوية ام الى السفر نحو المستقبل دون دليل؟

تمهيد
ميشيل سير ولد في 1930/09/01 و توفي في: باريس بتاريخ 2019/06/01 هو فيلسوف ومؤرخ للعلوم ومؤلف فرنسي. تم قبوله في الأكاديمية البحرية في عام 1949، والتي استقال منها بعد فترة وجيزة، للتحضير للامتحان التنافسي لمدرسة المعلمين العليا في باريس في مدرسة ثانوية باريسية، في عام 1952. باعتباره نورماليان، تم قبوله بعد ذلك بالمرتبة الثانية على قدم المساواة في مجمع الفلسفة في عام 1955. من عام 1956 إلى عام 1958، شغل منصب ضابط بحري في سفن مختلفة تابعة للبحرية الفرنسية: سرب الأطلسي، إعادة فتح قناة السويس، الجزائر، سرب البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1968 حصل على الدكتوراه في الآداب ونشر كتابه الأول "نظام لايبنتز ونماذجه الرياضية" . وتبع ذلك العديد من الأعمال المخصصة لهيرميس مما أكسبه النجاح. وتظل سلسلة «هيرميس» المكونة من خمسة مجلدات تمتد من عام 1969 إلى عام 1980 من أعماله العظيمة. وفي عام 1969 تم تعيينه أستاذاً لتاريخ العلوم في جامعة باريس 1 بانتيون-السوربون. كما قام بالتدريس في الولايات المتحدة، حيث أصبح أستاذاً في جامعة ستانفورد في عام 1984. تم انتخاب ميشيل سير لعضوية الأكاديمية الفرنسية في 29 مارس 1990. وفي عام 1994، تم تعيينه رئيسًا للمجلس العلمي الذي أطلقه جان ماري كافادا. يشارك كل يوم أحد، من 2004 إلى 2018، في عمود " معنى الاحداث" مع ميشيل بولاكو. كان ميشيل سير، مؤلفًا لما يقرب من مائة عمل ومقال، مفكرًا مشهورًا عالميًا، وكانت أعماله متعددة التخصصات تتعلق بنظرية المعرفة في العلوم والبيئة والفن والفلسفة. كان مؤلفًا غزير الإنتاج، وكان ينشر كتابًا واحدًا تقريبًا في السنة وأحيانًا كتابين. من بين مقالاته الأكثر شهرة: "جماليات كارباتشيو" (1975)، "الحواس الخمس" (1985)، "بوسيت الصغيرة" (2012،) و" قوة الفكر" (2015). لقد كان شخصية فكرية مألوفة لدى عامة الناس. يوجد شارع ميشيل سير في مسقط رأسه في آجا (لوت وغارون) حيث أقيمت جنازته في يونيو 2019. فكيف نظر ميشيل الى سيرته الذاتية واضافاته العلمية؟ وماهي رؤيته لمستقبل العالم؟

مقدمة
ولد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في باريس في 18 يناير 1925 وتوفي هناك في 4 نوفمبر 1995. بدأ النشر منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتتكون أعماله من مقالات عن شخصيات بارزة في الفلسفة (هيوم، برجسن، نيتشه، سبينوزا، لايبنتز)، أو الأدب (بروست، كافكا، ملفيل، بيكيت)، ولكن أيضًا حول المفاهيم الأصلية التي تم تطويرها من الصياغة الدقيقة للمشاكل (الاختلاف والتكرار، المعنى والحدث، الرغبة والقوة، الطي والباروك...). كما يتضمن العديد من المقالات، حيث نرى الفيلسوف يعود إلى عمله، أو يتدخل في قضايا تتعلق بممارسة الفكر، أو يدعم الأفلام، أو يشير إلى أهمية الكاتب. مدرس عظيم، موهوب بحس تربوي لا مثيل له (قام بالتدريس في باريس الثامنة من عام 1969 إلى عام 1987)، كما ترك الفصول الدراسية حيث فتحت كلماته المسارات التي أدت إلى ظهور كتبه. في مواجهة طلابه، نسمعه يبني مفاهيمه الرئيسية (الترحيل وإعادة الأقلمة، الترتيب، الطية، الحدث، المحايثة، إلخ)؛ ونحن نتبعه أيضًا في طريقه لعبور المجالين الفكريين الآخرين وهما العلم والفن (فرانسيس بيكون والرسم التخطيطي، والسينما وتصنيف الصور). تتميز هذه الرحلة الفكرية، التي جعلت من دولوز أحد كبار فلاسفة القرن العشرين، والتي تميزت بلقاء شخصيات مثقفة مثل جان هيبوليت وفرانسوا شاتليه وميشيل فوكو وبيير كلوسوفسكي، بحقيقة أنها تم تتبعها في عدة مناسبات بصحبة فيليكس غاتاري. إذا كان اسم جيل دولوز، الفيلسوف البارز في القرن العشرين. يدق جرسًا بالتأكيد، فلست متأكدًا من أننا جميعًا قادرون على التحدث عنه بالتفصيل... فيما يلي ثلاثة مفاتيح لفهم فلسفته بشكل أفضل. كتب ميشيل فوكو: "ربما يومًا ما، سيكون القرن دولوزيًا". مع أخذ هذا الاقتباس في الاعتبار، دعونا ننظر إلى المفاهيم الأساسية لهذا المفكر باعتبارها خلق المفاهيم. في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، هز جيل دولوز المشهد الفلسفي من خلال تحويل هذا التخصص إلى صندوق أدوات حقيقي، في متناول الجميع. تقليديا، تم استخدام الفلسفة للعثور على نوع من الحقيقة الأبدية. على سبيل المثال، من خلال تصنيف الأشياء: الوجود/العدم، الصواب/الخطأ، وما إلى ذلك. لكن بالنسبة لدولوز، عندما تمثل الفلسفة الواقع بهذه الطريقة، فإنها تجمده؛ مما يحد من الفكر عندما ينبغي أن يكون منفتحًا من خلال تفضيل خلق أفكار جديدة. بالنسبة لدولوز، الانفتاح ممكن بفضل المفاهيم: الآلة الراغبة، الصيرورة-الحيوان، الجسد بلا أعضاء، إلخ. وقد ذكر ذلك في كتابه ما الفلسفة؟ (1991): “الفلسفة هي فن تشكيل واختراع وخلق المفاهيم”. هذه المفاهيم هي أدوات تسمح لنا بالتفكير بشكل مختلف، وتحرير أنفسنا من نماذج التفكير السائدة. أو كما يوضح الفيلسوف روبرت ماجيوري: "إن خلق المفاهيم هو محاولة القطع كما تفعل بإزميل، والذي، من خلال النقر على الكل مرة واحدة، سيكشف عن شكل لم تره من قبل، وهو خاص بالفلسفة". تتيح لنا المفاهيم فتح طرق جديدة لفهم العالم والتصرف بناءً عليه، وهو ما يلخصه جيل دولوز على النحو التالي: "المفهوم هو لبنة. يمكننا استخدامه للبناء، ولكن أيضًا لهدم الجدران". فهو لم يفتح إمكانيات جديدة للتفكير فحسب، بل قام أيضًا بدراسة الفلاسفة العظماء وأنتج أعمالًا ألقت ضوءًا جديدًا على تفكيرهم.

- تفكير العقل في اشياء العالم الخارجي ومواضيع العالم الداخلي هو ابجدية لغوية صورية وليست فكرا مجردا متحررا من الابجدية اللغوية في تعبيرها الخارجي الصوتي او في صمتها التعبيري الخيالي فكرا بلا صوت.
هناك تعريف مصطلحي متفق عليه ان اللغة في ابسط تعريف لها هي ابجدية حروفية يمتلك كل حرف فيها صوتا ومعنى. واجد هذا التعريف ناقصا لانه يقتصر على تعبير اللغة عن اشياء وموجودات العالم الخارجي فقط. فأين يكون تفكير الصمت الداخلي المستمدة موضوعاته من عالم الخيال وأحاسيس إشباع الغرائز الجسدية الداخلية؟ الجواب هو تفكير الصمت ايضا تعبير لغوي في ابجدية حروفية لها معنى صوري وتفتقد الافصاح الصوتي خارجيا.
خطأ آخر أجده في تعبير اللغة ابجدية حروفية (صوت ومعنى) يعني في حال انعدام الصوت لا يبقى معنى، وفي انعدام المعنى لا يبقى لغة وهذا ما ينكره تفكير الصمت الداخلي بانه لغة تفكيرية صورية تمتلك المعنى والصوت المدّخر في الصمت اللغوي وفي الحركات الايحائية لاعضاء جسم الانسان كما في ممارسة الطقوس الدينية واليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت. وفي حاجة الجسم الغريزية التي تطلقها الاحاسيس داخل اجهزته.
- تذهب غالبية الفلسفات المثالية الى أن ما لا يدركه العقل لا وجود مستقل له. والحقيقة ان ملايين الموجودات التي نعايشها بعالمنا الخارجي والطبيعة لها وجود مستقل قد يدركه بعضنا او لا يدركه. الوجود الانطولوجي للاشياء المادية لا يتوقف على ادراكنا له ولا على عدم ادراكنا له. انطولوجيا الموجودات في استقلاليتها كينونة لا تاثير للانسان عليها قبل ادراكها العقلي لها.
- الوعي مرحلة ادراكية عقلية متقدمة على ما تنقله الحواس من احساسات. كما ان الوعي تجريد معرفي يتكامل مع مدركات العقل الانطولوجية ولا تربطه علاقة جدلية بها.التكامل المعرفي في وعي الاشياء هو من اجل تغييرها والاستفادة منها على خلاف الجدل فهو تضاد سلبي طارد لكلا النقيضين في تشكيل الظاهرة المستحدثة الجديدة. معرفة الاشياء في عالمنا الخارجي ليست وعيا جدليا معها بل تعريفا عقليا بها من اجل تغييرها. وكل ارادة انسانية يحكمها الوعي القصدي تكون المرتكز الاساس في احراز تقدم افضل في فهم الوجود وتقدم الحياة. ليس هناك وعيا ادراكيا لا يحمل موضوعه معه ولا يحمل هدفه القصدي الذي يسير نحو تحقيقه.
- ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات :
الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المافوق المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله هيرمان سكينر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.
الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام.، ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل ضوابط وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم. شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعية لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج   التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا.

كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي(مدرسيا) يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. والاهم انه لا يوجد عقل ذو طبيعة جدلية بالفكرة ينقاد له تفسير الواقع جدليا.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد أكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خصيصة بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

جوهر فلسفة هيجل هو (المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

ان حوار الفلسفة والشعر لا يخلو من التباس وتوتر، رغم أن الوشائج واللحم بينهما ليست منعدمة. واللقاء والالتقاء بينهما، قد حصل غير ما مرة في هذا الجانب أو ذاك. شعر يضمر فلسفة، وفلسفة قد تتوسل شعرا. دون أن يلغي أوجه التمايز والتباين بينهما. رغم أن الفلسفة الكلاسيكية اتخذت موقفا سلبيا من الشعر، بل وناصبته العداء في أحيان كثيرة. بدعوى أن الأدب عموما وليس الشعر فحسب، مجاله الخيال ولا صلة له بالحقيقة، التي هي الشغل الشاغل بالنسبة للفلاسفة. لا سيما وأن الفلسفة الكلاسيكية كانت تعتبر نفسها قولا برهانيا، أو خطابا عقلانيا يقوم على قواعد منهجية صارمة. تتغيا الحقيقة واليقين، وبالتالي لا مكان بين الفلسفة والفلاسفة للشعر والشعراء.

لا أحد ينكر اهتمام الشعر بالإنسان وقضاياه، وبالتالي إمكانية صياغته رؤية حول الإنسان والعالم ومشكلاته. لكننا نكاد نجزم أننا لا نعثر في الشعر عن تاريخ للحقيقة أو تحقيقا لها، أو بالأحرى تصحيحا لها كما هو الحال في تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم. ولا أحد ينكر أن ديدن الشعر هو الخيال، وزاده المحسنات البلاغية وجمالية اللغة والنزعة الخطابية، التي تروم التأثير في المستمع وبعثه على اللذة والانفعال.

علما أن الفلسفة المعاصرة خاصة مع هايدغر ونيتشه، باتت أكثر انفتاحا على الشعر. بل وتوسلته سبيلا للفكر والإفصاح عنه وحقلا لقول الحقيقة التي لم تعد تسعف اللغة العادية في انكشافها وتجليها. يتضح هذا من خلال تنوع الصيغ الأدبية التي يوظفها نيتشه في أعماله الفلسفية: أمثولة[1]، شعر[2]، شذرة، استعارة، مجاز، كناية. رغم ذلك، حتى إذا افترضنا أن الفلسفة جنس أدبي، فإن هذا الجنس زاده المفاهيم والمجردات، يظل مهووسا بالبحث عن الحقيقة والإستكناه والنقد. عندما تحضر فيه الصيغ الأدبية والأضرب البلاغية لا تعدو أن تكون مجرد، وسائل أو أدوات، ربما إذا تمزق حذاء الفيلسوف فإنه قد يستعير من الفنان أو الشاعر حذائه.  

قد يغدو هذا القول قابلا للمحو ومجرد لغو، إذا سلطنا عليه مبضع الفلسفة التحليلية مستحضرين التمييز بين قضايا المعنى[3] وأشباه القضايا التي لامعنى لها، أو العلم واللاعلم. فأنصار العقل والقول المنطقي لا يحفلون بالشعر كثيرا، في الجهة المقابلة هناك من يعضد طاقة الحياة، ويقول بم[4]بدأ الصيرورة، ولا يرى في الخيال عبأ على العقل وعلى كل قول حصيف.

سنعرج فهذا العرض على موقفين متعارضين حيال الشعر، وبالتالي علاقة الفلسفة بالشعر، انطلاقا من نموذجين مختلفين، الأول يمثله أفلاطون: ينبذ الشعر من منظور الحقيقة، يقف خلفه أستاذه سقراط ضحية اللغو والخطابة ومكر البلاغة. والثاني يجسده نيتشه مسنودا بهيراقليطس مهووسا بالحياة وطاقاتها مسكونا بمبدأ الصيرورة. وداخل الحقل الشعري نفسه نجد هذا التراوح بين العقل والخيال. فهذا فال[5]يري يقول: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدا من أعياد العقل[6]". وبخلاف هذا، يرى رائد المدرسة السوريالية أندريه بريتون[7] يقول:" ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل"[8]. فالشعر والفكر حسب تعبير هايدغر[9] نفسه، جاران يسكنان جبلين قريبين، تفصل بينهما هوة بلا قرار، كلاهما يتلقى النور من أعلى، ويبحت عن حقيقة الوجود، غايتهما واحدة، وإن كان كل من هما يسير على طريق غير الطريق. فأحب الأحباب فيما يرى هولدرلين في قصيدة باطيموس[10]، أحب الأحباب يسكنان قريبا، منهكين فوق جبلين منفصلين. فما هي المبررات والمسوغات الفلسفية التي ارتكز عليها كل واحد منهما حيال موقفه من الشعر؟ وهل الحوار واللقاء بين الفلسفة والشعر يصل حد التماهي فيلغي الحدود الفاصلة بينهما؟ ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة والأدب عموما؟

تمهيد
لعل مصطلح "فلسفة جذرية" يُطلق على مجموعة من المصلحين في أوائل القرن التاسع عشر الذين استندوا في تعاملهم مع الحكومة والمجتمع إلى حد كبير على النظريات النفعية لجيريمي بينثام، وإن كانوا قد تأثروا أيضًا بمالثوس وريكاردو وهارتلي. وكان من أبرز المؤيدين جيمس وجون ستيوارت ميل وجورج جروت وجون رويبوك، بدعم من مورنينج كرونيكل وويستمنستر ريفيو ولندن ريفيو. ولم تنجح جهودهم في بناء حزب راديكالي في البرلمان بعد عام 1832: "لم يفعلوا سوى القليل لتعزيز أي آراء"، كما كتب ج. س. ميل، "كان لديهم القليل من المبادرة والنشاط". لكن التأثير العام للأفكار النفعية تغلغل في السياسة، وخاصة في الفترة من 1820 إلى 1850، أنتج "عصر الإصلاح". في هذه المقدمة الموجزة، نوضح الأهداف والأساليب التحررية المشتركة للعديد من الفلسفات الراديكالية، من الماركسية والنسوية إلى نظرية العرق والمثلية النقدية. تدرس الفلسفة الراديكالية العلاقات بين النظرية والممارسة، والمعرفة والقوة، فضلاً عن وظيفة القانون في خلق أشكال خارجة عن القانون من الهيمنة. من خلال المشاركة النقدية في تاريخ الفلسفة، نعيد بناء التقاليد المضادة المهمة للأشكال التاريخية والجدلية والتفكرية للنقد ذات الصلة بالنضالات الاجتماعية المعاصرة. والنتيجة هي دليل مبتكر ومنهجي للنظرية الراديكالية والمقاومة النقدية. فمتى نشأت الفلسفة الجذرية؟ وماهي خصائصها ومهامها؟ وهل يمكن تحيين للفلسفة الجذرية؟

الترجمة

"كان بينثام من أتباع الفلسفة السياسية النفعية التي نشأت عن الفقيه القانوني الإنجليزي جيريمي بينثام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبلغت ذروتها في عقيدة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. كان بينثام يعتقد أن "الطبيعة وضعت البشرية تحت حكم سيدين، الألم والمتعة" وأن الأفعال يجب أن يحكم عليها أخلاقياً بأنها صحيحة أو خاطئة وفقاً لما إذا كانت تميل إلى تعظيم المتعة وتقليل الألم بين المتأثرين بها أم لا. وقد استكشف بينثام آثار هذا المبدأ على المؤسسات القانونية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. وقد طور ميل نظرية بينثام وصقلها، حيث رأى أن الأفعال صحيحة بما يتناسب مع ميلها إلى تعزيز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. ومن بين الفلاسفة المتطرفين الآخرين الاقتصاديين جيمس ميل وديفيد ريكاردو، والفقيه القانوني جون أوستن، والمؤرخ جورج جروت. وقد فضلوا الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من كونهم من المنظرين في المقام الأول، فقد سعوا إلى تحقيق تأثير عملي كبير وحققوا ذلك. التنوير يُعرف أيضًا باسم: عصر العقل، أو التنوير، أو عصر النور. الشخصيات الرئيسية: فرانسيس بيكون، إيمانويل كانط، جون لوك، فريدريش نيكولاي، جان جاك روسو. أهم الأسئلة هي متى وأين حدث التنوير؟ وما الذي أدى إلى التنوير؟ من هم بعض الشخصيات الرئيسية في عصر التنوير؟

منذ اسبينوزا، كنا حذرين من النزعات الأحادية (النظريات التي تؤكد أن الكل هو واحد)، لأننا نشتبه في أنها تؤدي إلى وحدة الوجود، وبالتالي إلى الإلحاد. يطمئن هيجل المنتقدين المحتملين لهذه النقطة ويتجنب الرقابة، من خلال إظهار أننا نستطيع تصور شكل من أشكال الأحادية التي تحافظ على فكرة الله؛ يكفي أن يتم تعريف الكل على أنه روح وليس مجرد جوهر:
"أحدث فهم الله باعتباره الجوهر الواحد ثورةً في القرن الذي جاء فيه هذا التعريف […]؛ كان السبب […] في غريزة أن الوعي الذاتي ما تم الحفاظ عليه فيه، ولكنه ببساطة غاص فيه".
مع ذلك، لنلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى هيجل لا يتعلق بتعارض بين الجوهر والروح: قد نبقى في ثنائية، غير قادرين على القيام بتوليف بين مصطلحين متعارضين. على العكس من ذلك، يعرف هيغل الحقيقي، المطلق، بالطريقة التالية: "هو الجوهر الروحي".
في الواقع ، لا يدعي هيجل أنه يقوم بعمل أصيل من خلال تعريف المطلق بكونه روحا. ويؤكد أن هذه هي مساهمة المسيحية اللاتعوض، والتي تشكل حقيقة عصرها: المطلق كروح: مفهوم سام بين الجميع، والذي ينتمي حقا إلى العصر الحديث وديانته. الحقيقي ملموس كما رأينا؛ لكن الروحي هو وحده الفعال. وكل شيء آخر مجرد، وما هو إلا تحديد للعقل مفصول بالتجريد عن هذا الأخير.
نستطيع إذن إعادة تركيز تفسيرنا حول فكرة "الروح". قلنا في بداية شرحنا أن مشروع هيجل هو دراسة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي يمكن أن تتخذها الحقيقة. يمكننا الآن إعادة صياغة ذلك بعبارات أكثر ملاءمة، قائلين إننا نبحث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الروح عبر التاريخ، في صيرورته الجدلية.
في الحقيقة، الأمران مرتبطان: الحقيقة هي ما يبدو كذلك للعقل. أو مرة أخرى، لا توجد حقيقة دون عقل يكتشفها. إن الحديث عن الأشكال المتعاقبة للحقيقة يعني في الواقع الحديث عن الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن الحقيقة. لكن بما أن الروح هي الكل، المطلق، الواحد في عبارة "الكل هو واحد"، يمكننا أن نقترح هذه الصيغة الأخيرة: نسعى هنا لوصف الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن حقيقة ما هو.
للقيام بذلك، يجب أن ينكشف لنفسه. وبعبارة أخرى: يجب أن يعي نفسه. ولذلك تظهر صلة أساسية بين الوعي والعقل. إن العقل، قبل كل شيء، ليس إلا "في ذاته": هو ما هو، دون أن يعرف أنه كذلك.

إذا كانت الحقيقة كلا تتبلور أشكاله واحدا تلو الآخر في التاريخ، فإننا هنا أبعد ما نكون عن أي شكل من أشكال التصوف، الذي يدعي أنه يفهم على الفور الحقيقة المطلقة، من خلال نوع من الحدس. ما لا يُعطى على الفور، ولكن يتطور تدريجيا، لا يمكن إدراكه من خلال هذا الفهم المباشر للحقيقة والذي سيكون الحدس. على هذا الأخير، ينبغي تفضيل المفهوم، الذي هو العنصر الحقيقي الذي يمكن للحقيقة أن تظهر فيه، وهو العنصر الوحيد الذي يمكن أن يضمن علمية المعرفة الناتجة عنه: "الحقيقة […] لا وجود لعنصر وجودها إلا في المفهوم".
خصص هيجل عدة فقرات لإدانة هذا الوهم، الحدس الصوفي، الذي سيكون بمثابة معرفة مباشرة بالدين المطلق، بالوجود. ولخصه على النحو التالي: ليس من المفترض أن نتصور المطلق، بل أن نشعر به ونتأمله. ليس المفهوم، بل الشعور الذي لدينا تجاهه وما نفكر فيه هو الذي من المفترض أن يقود المناقشات وأن يتم ذكره.
إذا كان هيجل يطور هنا نقدا للمذهب الحدسي، فذلك لأنه كان “متداولًا” في الوقت الذي كتب فيه هذه السطور. ثم شرح أصل هذا الجنون على النحو التالي: مع فلسفة التنوير، وظهور العقل ونقد الدين الذي نشأ عنه، فقد الإنسان صلته الطبيعية بالعالم.
لقد أدى هذا النقد الموجه إلى التنوير إلى حل العلاقات التي كانت تربط الإنسان ببيئته، وبوجوده. لقد شكّل العصر الذي أعقب ذلك، عصر هيجل، عصر الرومانسية الألمانية المنتصرة، نوعا من ردة الفعل: نتيجة لذلك، حاول الإنسان إعادة اكتشاف علاقته الطبيعية - وبالتالي المباشرة - بالوجود، أو الله، من خلال رفض مفهوم (العديل للتنوير) ومن خلال تفضيل الحدس، هذه العلاقة المباشرة.
بالعقل، بنقد التنوير، بالتفكير الذي باشره من الآن في العالم وفي ذاته، لم يعد الإنسان يعيش بطريقة طبيعية، ولم يعد يتطابق مع نفسه بطريقة ساذجة. إنه الألم الذي يدركه ويحاول أن يجد علاجا له، بواسطة إعادة اكتشاف ارتباطه الأصلي بالوجود، بواسطة الحدس:

طوال القرن التاسع عشر، كانت الفلسفة الألمانية مسكونة بشبح الثورة الفرنسية. فقد أمضى كانط وهيجل وأتباعهما حياتهم في صراع مع تراثها المدوي، محاولين تصور مسار ألماني خاص نحو "ثورة بدون ثورة". وبسبب حصار المجتمع المتحجر سياسياً، اندفع المثقفون الألمان إلى التفكير في طبيعة التجربة الثورية. في هذه الدراسة الطموحة والأصلية، يرسم ستاثيس كوفيلاكيس بانوراما غنية للشخصيات الفكرية والسياسية الرئيسية في فوران الفكر الألماني قبل ثورات 1848. ويوضح كيف دخلت محاولة رسم مسار إصلاحي معتدل في أزمة، مما أدى إلى توليد منظورين متعارضين داخل التيارات التقدمية في المجتمع الألماني. على الجانب الأول كان هناك هؤلاء الاشتراكيون - مثل موسى هيس والشاب فريدريك إنجلز - الذين سعوا إلى اكتشاف مبدأ الانسجام في العلاقات الاجتماعية. على الجانب الآخر، طور الشاعر هاينريش هاينه وكارل ماركس الشاب منظورًا جديدًا، يعبر عن القطيعة الثورية، وبالتالي إعادة تعريف مفهوم السياسة نفسه. يتضمن هذا الإصدار الجديد من الكتاب مقابلة طويلة مع كوفيلاكيس تضع العمل في سياقه. ربما يكون هذا أول إصدار جديد أصيل حقيقي لتكوين ماركس منذ تاريخ ما بعد الحرب الضخم الذي كتبه أوغست كورنو، ولكنه أيضًا نظرية جديدة لما هو الأكثر مركزية ومميزًا من الناحية البنيوية في إنجاز ماركس، ألا وهو الطبيعة السياسية الفريدة وقوى البروليتاريا. من المعلوم ان المؤلف ستاثيس كوفيلاكيس هو عضو سابق في حزب سيريزا في اليونان الذي انتُخِب للسلطة قبل أربع سنوات. لم يعد كوفيلاكيس عضوًا في المنظمة لأنه كان أحد النواب المعارضين الذين رفضوا استسلام رئيس الوزراء أليكسيس تسيبراس لحزمة التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي بعد فترة وجيزة من الانتخابات التي جلبت سيريزا إلى السلطة.

يتنزّل مفهوم الفضاء هو الآخر ضمن نسق الأشكال الرّمزيّة، إذْ سيعمل كاسيرر بنفس الطّريقة على نقل الخلاف حول الفضاء من ساحة الهندسة والعلوم الرّياضيّة إلى حقل الثّقافة. فيحُدّ بذلك من انحسار المفهوم في مجال الفيزياء والرّياضيات مُتخطّيا بذلك مقولة الفضاء المطلق عند الذرّيين وفكرة الفضاء الماقبلي في فلسفة كانط. وسيتبنّى كاسيرر وجهة نظر مغايرة ترى الفضاءَ ليس جوهرا ثابتا مطلقا بقدر ما هو مفهوم وظيفيٌّ عَلَقيٌّ ومنطقيٌّ. مثلما تحدّث عن أفضية أخرى يُنشئها الذّهن الإنساني بالتّرميز والتّخطيط وما الفضاء النّظري الرّياضي إلاّ واحد من ممكنات أخرى.

وقبل تفكيك وتفسير متصوّر الفضاء الكاسيرري، لا بدّ من التّذكير بالمتصوّرات السّابقة الكلاسيكيّة انطلاقا من الذرّيين وصولاً إلى كانط ولايبنتز حول الفضاء.

   نُشير هنا إلى أنّ نظريّة الفضاء المُطلق، من أقدم النّظريات الكوسمولوجيّة حول الفضاء، وقد قال بها الذرّيون (Les atomistes) قبل سقراط مثل "لوسيب" (Leucippe de Milet) و"ديمقريدس" (Démocrite d’Abdère) و"أبيقور" (Epicure) وغيرهم. وأساس الفكرة أنّ العالم يتكوّن من جُزيئات أو ذرّات غير متناهية والفضاء هو بمثابة الوعاء الحاضن لهذه الأجسام والذرّات. وهو ثَاِبت وسابق بصفة منطقيّة لهذه الأجسام وقابل للبقاء في حال زوال هذه الأجسام. فهو فضاء ضروريّ وأبديّ وغير مخلوق. وفي ضوء هذا التّصوّر بنى فيما بعد أفلاطون نظريّته في الهندسة. ففي "طيماوس"[1] (Timée)، وهو الحوار الأخير من جملة محاوراته يقوم بتركيب العناصر الأساسيّة المُنشئة للكون وهي: الماء والهواء والنّار والتّراب على أربعة أشكال هندسيّة أساسيّة. فيمنحُ الماءَ شكْلَ "العشريني الوجوه" (Icosaèdre) والتّراب شكل المُكعّب والنّار شكل الهَرم والهواء أو الأثير شكل "الاثني عشر وجها" (Dodécaèdre).

Anfasse220311

   ونفس مُتصوّر الفضاء المُطلق هو الّذي سيُكيّف الفيزياء الميكانيكيّة لدى نيوتن. ففي الأصول الرّياضيّة للفلسفة الطّبيعيّة يقول: "الفضاء المُطلق، بطبيعته وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، يبقى دائما ثابتًا وهو نفسه"[2]. ثمّ يُميّز في نفس السّياق بين الموضع والفضاء، فالموضِع نسبيٌّ وقابلٌ للإدراك الحسّي من خلال علاقته بالأجسام الّتي تحُلّ فيه، في حين الفضاء المطلق هو مفهومٌ مجرّد لا يمكن الاستدلال عليه إلاّ رياضيّاً. وعادة ما يخلط "الإنسان العادي [الفضاء النّسبيّ أو الموضع] بالفضاء الثّابت"[3] والمطلق. وجوهر الميكانيكا النيوتونيّة يقوم على تحديد الأشياء ضمن المواضع التي تحلّ فيها، أي كلّما حدّدنا شيئًا مّا في موضعٍ ما، نكون قد أنشأنا علاقةً. "فالكتاب موضوعٌ على الكرسيّ وهو بدوره على يسار النّافذة"[4]. فالمَوْضَعَةُ تعني إنشاءَ علاقةٍ مّا، يمكن أن تأخذ مثلاً صفة المسافة (بعيد، قريب) أو الاتجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام، إلخ).

   كما لا يمكن عزل فكرة الفضاء المطلق واللاّمحدود عن مظانّها الميتافيزيقيّة المتحكّمة في النّسق النيوتني. إذْ هي في النّهاية تعبيرة فيزيائيّة عن فكرة اللانهائيّة الإلهيّة. وسيتوضّح الأمرُ أكثر في كتاب "البصريات"(1706) عندما يستعيرُ للفضاء عبارة "جهاز الاستشعار الإلهي"[5] (Sensorium dei)، أي أنّ الفضاءَ هو الموضعُ الذي من خلاله نتحسّس الوجود الإلهي ومن خلاله أيضًا يتجلّى الفعل الإلهي في تشكيل وتنظيم حركة الكواكب في الكون. فالفضاء هو بمثابة العضو الحسّي الذي من خلاله يكون الإلهُ حاضرًا وحالاًّ في العالم.

   هذا المتصوّر لفضاءٍ مطلق لامتناهٍ، وبدون علاقة بأيّ شيء خارجيّ، سيلقى نقدا واعتراضا من قبل الفيلسوف الألماني "ويلهالم لايبنيتز"(Wilhelm Leibniz)، وسيُنقَلُ النّقاش الخلافي في شكل مناظرة بالتّراسل بين لايبنتز ونيوتن جُمعت تحت عنوان "مراسلات لايبنيتز وكلارك"[6]. وفي ضوء هذا النّقاش الخلافي سينحتُ كاسيرر تصوّره الجديد للفضاء المتعدّد.

   ولا بدّ من التّذكير أنّ الفضاء النيوتني قائم على خاصيات بديهيّة وهو كذلك الوسيط الذي يؤثّر من خلاله الإلهُ في الأشياء. هذه الفكرة ينقضها "لايبنيتز" انطلاقا من مبدأ تنزيه الإله عن حاجته لوسيط حتّى يؤثّر ويفعل في الكون. فيقول في أحد ردوده: "لا توجد عبارة جديرة بالرّفض في هذا الموضع كتلك التي تمنحُ اللّه إحساسًا أو استشعارا. ويبدو أنّ مثل هذه الفكرة قد تجعلُ من اللّه روح العالم" [7].

   وهُنا تأتي جدّةُ الطّرح اللايبنيتزي، فيتصدّى لفكرة الفضاء المطلق ويستبدله بالفضاء المثالي والنّسبيّ. وصفة المثالي (Idéale) تكاد تُرادف معنى التمثّل، أي أنّ الفضاء يتجلّى في طريقة مَوْضَعَتِنَا (Juxtaposition) للأشياء عندما نكتشف العالم، فهو ليس بمعزل عن تمثّلاتنا الذّهنيّة للعالم. والموضعة تُفهم في النّسق اللاّيبنيتزي بوصفها إنشاء علاقات بين الأشياء والأجسام من قبيل الاتّجاه (يمين، يسار، أعلى، أسفل، خلف، أمام،) والمسافة والحجم (بعيد، قريب، عريض، طويل، قصير، إلخ). فالفضاء نسبيٌّ بحُكم علاقته بتمثّلات الذّهن وهو يَعْقِلُ الكونَ. هكذا ينفي "لايبنيتز" صفة الإطلاق والجوهرانيّة عن الفضاء فيقول: "هؤلاء السّادة (نيوتن وتلاميذه) يؤكّدون أنّ الفضاء هو مُعطىً حقيقي ومطلق وهو يؤدّي بهم إلى مزالق جمّة منها أنّ هذا المُعطى يجبُ أن يكون لانهائيّاً وأبديًّا وهو ما حمل البعض على الاعتقاد بأنّه هو اللّه نفسه في صفته وعظمته. غير أنّ هذا المُعطى يحتوي على أجزاء وحدود وبالتّالي لا يمكنه أن يتناسب مع اللّه"[8].

   ولو لخّصنا انتقادات لايبنيتز لفكرة الفضاء المطلق النيوتونيّة، لألْفَيْناها قائمةً على مرجعيّتين: أولى منطقيّة تستندُ إلى مبدأ التّطابق (Principe des indiscernables) والذي يقول بأنّه لا يُمكن أن يُوجدَ شيئان منفصلان عن بعضهما البعض ويشتركان في نفس الوقت في نفس الخصائص. وكأنّ لايبنيتز يستعيدُ مبدأً اعتزاليا قديما يقوم على التّنزيه، أي عدم القبول منطقيّاً بمشاركة الزّمان والمكان الإلهَ في صفة الإطلاق واللاّتناهي.

 أمّا المرجعيّة الثّانية فميتافيزيقيّة وقاعدتها مبدأ "السبّب الكافي". وبناءً عليه يفترضُ "لايبنيتز" أنّه إذا ما كان الفضاءُ خَوَاءً لامتناهيا ثمّ وضع فيه الإلهُ هذا الكونَ، فليس من المعقول أنّ يكون الإلهُ قد اختار فضاءً من جملة أفضية أخرى ليضع فيها الكون.

   ينتهي "لايبنيتز" في الأخير إلى أنّ الفضاء هو نظام "المتواجدات المشتركة" أي مجموع العلاقات التي يبنيها الذّهنُ أثناء إدراكه للعالم وموضعة الأشياء فيه. فهو ليس وعاءً سابقا وحاضنا للأشياء، وإنّما هو نظامٌ من العلاقات بين الأشياء. والنّقطة في الفضاء لا تختلف عن عنصر في مجموعة، وهذا ما جعل "لايبنيتز" يرى في الفضاء الإقليدي المسطّح مجرّد مجموعة أو نسق بالمعنى المنطقيّ الرّياضيّ.

   وسيستثمر "كاسيرر" مفهوميْ "النّظام" و"العلاقة" في النّقاش الخلافي بين لايبنيتز ونيوتن، لكنّه سيستفيد أيضًا من نقد كانط للوثوقيّة التّجريبيّة لنيونتن والوثوقيّة المثاليّة للايبنيتز. فالأوّل كان محتاجًا للفضاء المطلق الخاوي والسّابق لِيَبْنِيَ عليه كلّ قوانين الفيزياء الميكانيكيّة، والثّاني جعل من الفضاء تمثُّلاً مُجرّدا للعلاقات بين الأشياء. وسيُفرِغُ كانط مفهوم الفضاء من كلّ سمات الإطلاقيّة والمثاليّة ويجعلُ منه ظاهرة ذاتيّة حدسيّة في علاقة بالذّات العارفة. ولنعرضْ قبل ذلك اعتراضات كانط على لايبنيتز قبل تفسير نظريّته بخصوص الفضاء والزّمان.

   قبل بلورة نظريّته في المكان والزّمان في "نقد العقل المحض" كتب كانط سنة 1768 نصًّا تناول فيه بالتّحليل الطّبيعة الأنطولوجيّة للمكان، وفيه نقد تعريف لايبنيتز للمكان والزّمان باعتبار الأوّل نظام تواجد (Ordre de coexistence) والثّاني نظام تتابع (Ordre de succession). ولا بدّ من التّذكير هُنا أنّ أُسًّ الجَدل الكانطي اللايبنتزي لا يقوم فقط على الخلاف المفهوميّ، بل يتجاوز ذلك إلى تصوّر المعرفة. وهي نقطة الانطلاق في الخلاف بين الرّجلين. فحسب رؤية لايبنيتز المنطقيّة والمفهوميّة،كلّ القضايا هي تحليليّة، أي أنّ المعرفة لا تنشأ إلاّ في صُلب القضايا التّحليليّة. ماذا يعني ذلك؟ بشيء من التّبسيط يمكن القول أنّ المعرفة كامنة في إحدى العبارتيْن المُكوّنتيْن للقضيّة من قبيل: الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نُقطتيْن. فهذه قضيّة تقدّم لنا معرفة انطلاقا من مكوّناتها الدّاخليّة المُحايثة، أي بناءً على منطقها الكامن في العبارات المكوّنة للقضيّة. ولسنا في حاجة إلى القيام بتجارب وقيس كلّ خطّ مستقيم حتّى نستدلّ على صحّتها. فالمعرفة هنا تحليليّة باعتبارها اكتشاف للمنطق الكامن في المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة.

   بالنّسبة إلى كانط الموقف مُعاكسٌ تماما، فالمعرفة لا تكون إلاّ تأليفيّة، أي لا توجد في العبارات المكوّنة للقضيّة، بل نحتاج مغادرة المفاهيم الدّاخليّة للقضيّة للاستدلال على صحّتها. وفي مثالنا السّابق لا يمكن التأكّد من صحّة القضيّة التي تقول بأنّ " الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين" إلاّ في ضوء مقارنة خارجيّة تستدعي أوّلا الخروجَ من مفهوم الخطّ المستقيم واستحضار الخطّ المُحدّب مثلا أو الخطّ المنكسر حتّى نُثْبِتَ أنّه الأقصرُ مسافةً بين نقطتين. فلا بدّ أن نتجاوز ونتخطّى ثمّ نعقد ونؤلّف القضيّة مع مقولات أخرى خارجيّة حتّى تحصل المعرفة ونتأكّد من سلامة القضيّة المطروحة.

    أنّ لايبنيتز أمام هذا الاعتراض يعتبر أنّنا لم نُغادر البتّة المنطق التّحليلي. لماذا؟ لأنّه يعتبر الخطّ المستقيم هو الحدّ الأدنى أو الحدّ الصّفر للخطّ المُحدّب، أشبه بالسّكون الذي هو الحدّ الصّفر للحركة.

    نخلص ممّا سبق إلى أنّ المعرفة عند لايبنيتز اكتشاف وتملّك بوصفها كامنة في المفاهيم، بينما هي عند كانط تجاوز وبناء وتأليف باعتبارها جامعة بين المفهوم وما هو خارج المفهوم. هذا هو أسّ الخلاف الذي سيفيض على بقيّة المسائل ومنها قضيّة "مبدأ التّطابق" اللايبنيتزي الذي عارضه كانط بشدّة. يقول لايبنيتز أنّ كلّ اختلاف هو في النّهايةِ مفهوميٌّ، فإذا اختلف شيئان مثلاً، فلا بُدّ من أن لا يختلفا فقط في العدد والشّكل وغيرهما، وإنّما أيضا في المفهوم. ويكفي تحليل المفهوم حتّى نقف على الاختلاف. بالنّسبة إلى كانط لا يمكن اختزال الاختلاف في المفهوم، وهُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة. فعندما ندرك العالم كما يتمثّل لنا، نجدُ صنفين من التّحديدات: تحديدًا مفهوميًّا كأن نقول "الطّائرُ هو الّذي يطير" وتحديدًا ثانيًا زمانيًّا مكانيًّا يجعلُ الشيءَ المُحدّد قائما في الزّمان والمكان أي: الآن وهُنا. بمعنى يملأ مساحة من المكان ويجري في الزّمان، فهو على اليمين أو على اليسار وهو ماثلٌ أمامي أو ورائي وهو يدوم إلى حيّز ما من الزّمن. هذا هو البُعد الثّاني في تحديد الأشياء وضبط اختلافها الذي يُضيفه كانط، وهو البعد الزّمكاني. والمثال الذي يُعارض به كانط لايبنيتز، هو اليَدَانِ، فرغم اشتراكهما في التّسمية والسّمات، إلاّ أنّهما لا يتطابقان بحُكم التّحديد المكاني والزّماني الذي يجعل يدًا واقعة في الجهة اليُمنى والأخرى في اليُسرى.

فحسب كانط نظام الاختلاف أو التّطابق يبقى دائما خارج المفاهيم، لأنّه محكوم باختلافات زمانيّة ومكانيّة. فالمعرفة حصيلة تأليفيّة بين التّحديدات المفهوميّة والتّحديدات الزّماكانيّة. فلا يمكن تصديق القضيّة القائلة بأنّ "الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتيْن"، بدون استحضار إحداثيات مكانيّة وزمانيّة.

   نصلُ هُنا إلى نقطة الخلاف التي انطلقنا منها حول مفهوم الزّمان والمكان. وأين تكمن الجدّةُ في الاستدراك الكانطي على لايبنيتز؟ وحتّى نمسك بالمسار الجدلي بينهما لا بدّ من التّذكير بالتّعريف المفهوميّ للمكان والزّمان عند لايبنيتز. والذي يقول فيه أنّ الأوّل هو "نظام تواجدات ممكنة" والثّاني "نظام تتابعات ممكنة". والاعتراض الأوّل لكانط هو في اعتبار المكان نظام تواجدات ممكنة، والحال أنّ التّواجد هو تزامن أي إحلال الأشياء في الفضاء في نفس الحيّز الزمنيّ، وبالتّالي التّواجد هو منوال زمنيّ ولا يمكن أن نُعرّف به المكان أو الفضاء. فالتّواجد يجري هو الآخر في الزّمان. الاعتراض الثّاني، مُنطلقه المناويل الثّلاثة التي يحدّ بها كانط الزّمان وهي: الدّيمومة (ما يدوم)، التّتابع (ما يجري)، والتّزامن (ما يتواجد). وبالتّالي لا يمكن تعريف الزّمان بنظام تتابع، لأنّ التّتابع هو أحد مناويل الزّمن، أي مجرّد بُعد من أبعاده.

   لندفع بالتّحليل قليلاً، ونضع لايبنيتز في سياق التّصوّر الكلاسيكي للزّمان والمكان. فنظام التّتابع ونظام التّواجد يقتضيان بالضّرورة تصوّرَ الزّمان والمكان كجوهرٍ أو ماهيةٍ، أي أنّ النّظامَ المكانيَّ لا معنى له بدون الأشياء التي تملأ المكانَ، فهو في النّهاية ماهيةٌ. وفي هذه النقطة المفصليّة يأتي المنعطف الكانطي الذي يُحوّل الزّمان والمكان من ماهية أو جوهر إلى شكلٍ. المكان هو شكلٌ وليس ماهيةً. ماذا يعني ذلك؟ هو الشّكل الذي يأتينا من خلاله كلّ ما هو خارجٌ عنّا. الشّكل الذي من خلاله نتملّك العالم الخارجيّ. يعني ببساطة، بدون مكان لا يمكن الحديث عن خارجٍ. أمّا الزّمان فهو شكل الدّاخل، أي الطّريقة التي يكون بها الشّيءُ داخِلَ نفسه. وإذا كانت الأشياءُ كائنةً في الزّمان، فإنّ ذلك يعني أنّ لها داخليّةً.

   وفي ضوء مقولتيْ المكان والزّمان، يُحدّد كانط مفهوم الظّاهرة التي يشحنها بدلالة تأويليّة مخصوصة. فالظّاهرة بالنسبة إليه ليست التي تحجُبُ ماهيةً أو جوهرا. وليست أيضًا مجرّد الظّهور المحسوس بالمعنى البسيط والسّاذج، وإنّما الظّاهرة هي كلّ ما يبرز في الزّمان والمكان ويمنحها شكلاً أو معنى أو لنقُل سِمةً وعلامةً بالمعنى "البيرسي". وبناءً على هذا المُتصوّر لم يعُد يُنظر إلى الظّاهرة في علاقتها بالماهية أو بالجوهر وإنّما في علاقتها بالشّروط الزّمكانية أو بالمعنى المَمْنُوحِ لها. هكذا تَرَكَ مفهومُ الماهية مكانَه لمفهوم المعنى والدّلالة أو الشّروط. وخلف ستار الظّاهرة لا يوجدُ شيءٌ لنراه غير المعنى والدّلالة التي يصبغها التمثّل الذّهني على الأشياء في الكون.

   إلاّ أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السّياق، ماذا يعني كانط بمفهوم الشّكل المنسوب للزّمان والمكان؟ وأيّ فرق بينه وبين الزّمان والمكان كمفهوم لدى لايبنيتز؟ هُنا لابدّ أيضا من استحضار المفاهيم الأساسيّة التي نحتت التّصوّر الكانطي للأشياء، فالجدّة والتّجاوز في التّفكير الفلسفي تنهضُ بدرجة أولى على ابتكار شبكة مفاهيم جديدة نقتصر منها على مفهوميْ: الماقبلي (L’apriori) والمتعالي (Le transcendantal). وللأمانة فإنّ الماقبلي والمابعدي (L’apostériori) مفهومان قديمان غير أنّ كانط غيّر المعنى. وإذا أخذنا الماقبليَّ في معنى ما هو مستقلٌّ عن التّجربة وحاصلٌ بالبديهة والعَقْلِ بصفة مُسْبَقة عن كلّ إدارك أو تجريب، فالسّؤال يكون: هل ثمّة معارف حاصلة بصفة ماقبليّة وبشكل مستقلّ عن التّجربة؟ وفي ضوء السّؤال سيكون الوجودُ مُعطًى ثانويًّا بالنّظر إلى الماقبليّ الأوّل.

   والإجابة الكانطيّة الأولى عن هذا السّؤال تأتي في شكل حدٍّ بالوصف، فالماقبليُّ ليس فقط ما هو مستقلّ عن التّجربة، بل هو الحتميُّ والكونيُّ. ماذا يعني ذلك؟ لنأخذ مثالاً يقول: "إنّ كلّ الأجسام تسقُط حتما على الأرض بنفس السّرعة". هذا قانون فيزيائي لا يمكن الشّك في صحّته، غير أنّه ليس في وسع التّجربة وحدها أن تثبت صحّته لأنّه لا يمكن إجراء التّجربة على كلّ الأجسام الموجودة في الكون حتّى نتأكّد من ذلك. بمعنى أنّ التّجربة لا تُغطّي إلاّ عددًا قليلاً من الأجسام، بناءً على فرضية وجود أجسام تسقط بسرعة مختلفة عن البقيّة التي شملتها التّجربة. فالتّجربة لا تشمل إلاّ ما هو جُزئيٌّ وطارئٌ. والسّؤال في هذا السّياق: من أين أتتْ عبارة "حتما"؟ قياسا على عبارات أخرى مثل "كلّما"، "دائما"، بـ"الضّرورة"، وغيرها. هُنا تأتي جدّة الإضافة الكانطيّة في إدخال مفهوم المقولات (Les catégories) الماقبليّة، وهي عبارة عن صفات أو تعريفات تُقال وتنطبق على كلّ الأشياء في الكون ولا تحتاج إلى تجربة للاستدلال عليها كأَنْ نقول: "لكلّ شيء سببٌ ما". فالمقولات هي الأشكال الماقبليّة للوعي الخالص بالكون والأشياء. غير أنّه هُنا لا يجب أن تُفهمَ المقولات بوصفها معارف أوليّة مجرّدة بشكل خالص. فهي لا تنشأ وتتطوّر في الذّهن بمعزل عن المُدركات الحسيّة. لأنّه بفضل المقولات يمكن للذّهن البشريّ أن يقوم بتأليف المختلف وتنظيم فوضى الأشياء المُدركة في الكون وهو ما يُسمّى "مَقْوَلَة" العالم. وكأنّ كانط يقول لنا أنّه خارج المَقْوَلة التي يقوم بها الذّهن وهو يَعِي العالمَ، لا يوجد إلاّ سديمٌ من الفوضى، وليس لنا من سبيل للسّيطرة على الفوضى إلاّ عبر عمليّة المَقْوَلَة. ماذا يعني ذلك أيضاً؟ يعني أنّ العالمَ المُدرَكَ يأتينا في شكل معارف ومعلومات مُهيكلة ومُنمّطة، وممقولة، وليس في شكل معلومات مشتّتة ومفاجئة. ويوعز كانط هذا الأمر إلى "المنطق المتعالي" (La logique transcendantale) الذي يسبق "المنطق العامّ"، فهو يُشبه إلى حدّ ما "البرنامج الأدنوي" التّشومسكي والذي يُحاكي تقريبا برنامج المُدخَلات والمخرجات الأساسيّة للنّظام الحاسوبي (Bios). فلا يُمكن تحميل أيّ نظام تشغيل بدون البرنامج القاعدي الأساسي.

   ويُقسّم كانط المقولات تقسيما ثلاثيّا إلى أربع عائلات[9] كما هو موضّح في الجدول التالي:

مقولات الكمّ

مقولات النّوع

مقولات العلاقة

مقولات الجهة

الوِحْدَة

الإثبات

الجوهر والعرض (ماهوي/عرضي)

ممكن/ممتنع

التّعدّد

النّفي

السببيّة والتّبعيّة (سبب/نتيجة)

موجود/منعدم

الإجمال

المحدوديّة

الاشتراك (التفاعلية بين الباثّ والمتقبّل)

الوجوب/ الجَواز

(واجب/جائز)

وبالعودة إلى ما انطلقنا منه، جديرٌ بنا أن نتساءل: هل الزّمان والمكان في النّسق الكانطي هُما من جنس المقولات أم لا؟ وإذا سلّمنا بأنّهما يشتركان مع المقولات في خاصيّة الماقبليّة ولكنّهما يختلفان عنها في نفس الوقت، يكون السّؤال المنطقيّ: لماذا ميّزهما كانط عن المقولات؟ أو لماذا لم يعتبرهما من ضمن المقولات؟

   يمكن النّظر إلى المسألة من زاويتيْن: الأولى في علاقة بتكامل النّسق النّظري الكانطي، إذْ لو جعل الزّمان والمكان من جنس المقولات، لسقط في نفس التّجريد النّظري والمفهومي والذي عابه على "لايبنيتز". ثمّة إذًا نوعان من الماقبليات: المقولات والزّمان والمكان. ولكنّ ما هو وجه الاختلاف بينهما؟

   تأتي هُنا الإضافة الفارقة لكانط: فإذا كانت المقولات مفاهيم متولّدة عن التمثّلات الذّهنيّة الماقبليّة للكون والأشياء، فإنّ الزّمان والمكان هُما شرط ظهور الأشياء وحدسها، بناءً على أنّ هذه الأشياء لا تكون أشياء إلاّ بما هي واقعة في إحداثيات المكان والزّمان. فالزّمان والمكان يتعلّقان بشكل تمظهر الأشياء، في حين المقولات ترتبط بمنوال تمثّل هذا الظّهور. من خلال هذا التّصوّر يمكن أن نقفَ على نتائج جدّ مُهمّة. وإن لم يعلن عنها كانط فقد بلورها وطوّرها في ما بعد تلاميذه منها:

  • أنّ العالم ليس له خاصّيات مكانيّة في ذاته إلاّ ما ينسبه إليه الذّهن البشريّ. فالأبعاد والمسافات والمواقع وأشكال الامتداد، هي ثمرة التمثّلات الذّهنيّة للعالم الخارجي والقائمة بدورها على الاستعدادات الفطريّة الأوليّة والتي تمثّلها المقولات والزّمان والمكان.
  • الزّمان والمكان هُما شكلٌ وليس ماهية.
  • الحدس الفطريّ بالأشياء في الزّمان والمكان، هو شرط ظهورها وتمثّلها ذهنيّا وصَوْغِها مفهوميًّا.

      لا شكّ أنّ كاسيرر باعتباره كانطيّا مُجدّدا، سيستفيد من مفهوم الشّكل، والخُطاطة وغيرها، ليضع متصوّر الزّمان والمكان ضمن فلسفة الأشكال الرّمزيّة وتحديدا الوظائف الرمزيّة الثّلاث: الوظيفة التّعبيرية، الوظيفة التّمثيلية، والوظيفة الدّلاليّة. وضمن كلّ وظيفة يتشكّل تصوّرٌ مخصوصٌ حول الفضاء والزّمان. فثمّة الفضاء الأسطوري المرتبط بالتمثّلات العفويّة والبدائيّة للإنسان حول الفضاء. وثمّة الفضاءُ الجماليُّ الذي تُنشئه شتّى الأشكال الثّقافيّة والرّمزيّة التي يُبدعها الإنسان. وأخير يوجد الفضاء النّظري الذي تبنيه العلوم انطلاقا من تصوراتها للعالم والأشياء. وسنعود بالتّفصيل لكلّ نوعٍ على حدة. غير أنّه من الجدير بالتّذكير أنّ كاسيرر استفاد أيضا من فكرة نظام التّواجد ونظام التّتابع للايبنيتز، ليخلُص إلى أنّ المسألةَ ذات بُعْدٍ عَلَقي (Relationel) أي الكيفيّة التي نُنشئ بها علاقة مع العالم والأشياء وهي تختلف من حقل إلى آخر. وفي نفس الوقت لا يمكن فصل التّصوّر الزّمكاني عن كيفيّة معرفتنا بالعالم المُدرَك أو الممكن أو المُتخيّل.

   هذا الجانب العلقيُّ، يُشبه إلى حدّ ما مفهوم الأنموذج التّفسيري أو البراديغم (Paradigme) في إيبستيمولوجيا تاريخ العلوم. فالمكان مثلاً أخذ أوجُهًا عديدة في حقل العلوم على مرّ التاريخ، فنجد الفضاء الفيزيائي الكوسمولوجي النيوتني المطلق، ونجدُ المكان والزمان "المينكاوسكي" (Minkowski) رباعيّ الأبعاد، ونجد زمان ومكان النّسبية العامة لإينشتاين. 

  • الفضاء الأسطوري

حسب النّسق الكاسيرري، لا يوجد حُدسٌ عامّ وثابت حول الفضاء، ولا يكتسبُ الفضاء محتواه وخصائصه إلاّ في ضوء الدّلالة والتّرميز الذي يمنحه له الإنسان في ظرفٍ تاريخيّ ما وضمن نسقٍ مخصوص من التّرميز. يُستشفّ من ذلك أنّ الفضاء ليس مُعطىً أو بنيةً ثابتةً، بل قابلاً للتّغيّر وفقًا للتّنظيم الدّلالي الذي يهيكل به الإنسان العالم من حوله. وضمن هذا التّصوّر، يُفهم الفضاء الأسطوريّ كواحد من الممكنات أو من الأشكال التّرميزيّة للفضاء من جملة أشكال أخرى. وهو الشّكل شبه الأوّلي المرتبط بالوعي العفوي والحسّي للإنسان. وقبل الحديث عن الخصائص المميّزة للفضاء الأسطوريّ لا بدّ من التّذكير أنّ المكان والزّمان بالنّسبة لكاسيرر، هُما الأسّ والإطار الحاضن الّذي تُبنى في ضوئه كلّ معارف الإنسان وتصوّراته حول الأشياء والعالم. وانطلاقا من ذلك يكون حدس المكان والزّمان حاملاً لمظانّ معرفيّة تختلف من نسقٍ رمزيّ إلى آخر.

   ولعلّ أولى التصوّرات التي ينبني عليها حدس المكان والزمان في الرّمزيّة الأسطوريّة، تقوم على ظاهرة التّماهي بين الإنسان والعالم والأشياء. ويبرز التّماهي في الوعي الأسطوريّ من خلال عدم الفصل بين الأجزاء والكلّيات وبين الصّور والأشياء وبين الأسماء ومُسمّياتها. فالتّأثير السّحريّ مثلاً يُمكن أن يحدُث بوسائط وجزئيات تمثّل الشّخص نفسه حتّى وإن كان غائبا من قبيل: خصلة من الشّعر، اسم الشّخص أو ظلّه[10]، بعض ممتلكاته، إلخ. وهي أشياء لا تُعدُّ في الرّمزيّة الأسطوريّة مجرّد تمثيل أو بديلاً للشّخص وإنّما يُنظر إليها بوصفها الشخص ذاته على سبيل التّماهي. ونفس الشيء يُقال حول العلاقة بين الاسم والمُسمّى القائمة على المُحايثة والتّماهي بين الدّال والشّيء المدلول عليه. أي أنّ الكلام في الوعي الأسطوري البدائي له طاقة وقوّة إنجازيّة كبيرة، أي يكفي التلفّظ بالشّيء حتّى يتحقّق حضوره على نحو ما وإن كان غائبًا عن العيان. وبه نستطيع أن نفهم سحر الكلام وقوّته الإنجازيّة في النّصوص الدينيّة (في البدء كانت الكلمة) وكذلك أهميّة التّعاقدات الكلاميّة في المجتمعات البدائيّة.

   في ضوء ظاهرة التماهي يتنزّل حدس المكان في الوعي الأسطوري، فيكتسي طابعا ذاتيّا وعاطفيّا وحسّيا، أي لم يرتق بعدُ إلى تخطيطٍ وفهمٍ مُجرّد. ويُفسّر هذا الحَدس البيولوجي والعضويّ للمكان انطلاقا من نتيجة توصّل إليها الأنتروبولوجيون، وهي أنّ الإنسان في هذا الطّور يُهيكل العالم انطلاقا من جسده[11]. وبهذه المركزيّة يغدو المكان أو الموضع أو الحيّز مشروطا بما يحتويه وبالحضور المادّي والحسّي لمن يحدس المكان. فالـ "هُنا" والـ "هُناك" في الفضاء الأسطوريّ هي لحظة آنيّة سرعان ما تنتفي وتنتهي بانتهاء لحظة الحضور ولحظة حدس المكان. أي لا يُمكن تمثّل الـ"هُنا" والـ "هناك" كفضاء مجرّد رمزيّ في حال الغياب. فالفضاء الأسطوري البدائي، فضاءٌ عمليّ عضويّ مرتبط بالحواس البصريّة والّلمسيّة، والسّمعيّة، والشّميّة، وغيرها. وهو فضاء متنوّع ومتغيّر وغير متجانس لأنّ الإنسان البدائي لم يصل بعدُ إلى مَوْضَعَةِ (Objectivisation) الفضاء كمُخطّط (schème) أو كنظام رمزيّ مجرّد. يقول كاسيرر: "ويدلّنا علم الأنتروبولوجيا على أنّ القبائل في العادة موهوبةٌ بإحساسٍ للمسافة غاية في الحدّة، فالفردُ من تلك القبائل ذو بَصر بأدقّ الدّقائق في بيئته، مُرهف الحسّ لكلّ تغيّر يطرأ على الموجودات المألوفة من حوله...فإذا جدّف أو أبحر تتبّع بدقّة بالغة كلّ منعطفات النّهر ذاهبًا وآيِبًا، لكن إذا دقّقنا الفحص اكتشفنا لدهشتنا أنّه يفتقر افتقارا غريبا لإدراك المسافة...فإن سألته أن يُعطيك وصفًا عامًّا، أي تخطيطا لمجرى النّهر عجز عن ذلك، وإذا رغبتَ إليه في أن يرسم خريطةً للنّهر ومنعطفاته المتعدّدة لم يكد يفهمُ ما تقول. ومن هذا نتبيّنُ بوضوحٍ وجلاءٍ أمر الاختلاف بين الفهم المحسوس والمُجرّد للمسافات والعلاقات المسافيّة"[12]. فالمعرفة بالفضاء لدى البدائي قائمة فقط على العرض والتّعيين (Présentation)ولمْ تَرقَ بعدُ إلى مستوى التمثّل (Représentation)[13].

  • الفضاء الجمالي

وهو الفضاء المُتشكّل ثقافيّا من خلال أفانين النّحت والرّسم وشتّى الأشكال التّعبيريّة. وضمن هذا المستوى المتقدّم يكون الإنسان قد غيّر منظوره إلى الفضاء مُتجاوزا الحدس البيولوجي والوجداني إلى مستوى أرقى من التّرميز والسَّميأة (Sémiotisation) الثّقافيّة. وانطلاقا من هذا المنظور يكون الإنسان قد حقّق نسبة من التّحرّر بخصوص مركزة الفضاء في علاقته بالذّات، أي موْضَعته وإخراجه من حيّز الأنا إلى حيّز الموضوع القابل للنّقل والتمثّل والتّرميز. فالموضعة هي النّقطة الفارقة بين الحدس البيولوجي الحيواني للفضاء، والتمثّل الذّهنيّ والإنسانيّ له كموضوع مستقلّ وقابل للتّرميز بواسطة اللّغة أو الرّسم أو النّحت أو التّصوير وغيرها من العلامات.

ج- الفضاء النّظري

ويقصد به كاسيرر الفضاء الذي أنتجته العلوم الرّياضيّة والمُلائم للمقتضيات العلميّة. وتُعتبر الهندسة الإقليديّة أوّل مظهر من بواكير مَوْضَعَة الفضاء من النّاحية العلميّة. وهي هندسة ثلاثيّة الأبعاد قائمة على فضاء مُسطّح. غير أنّه رغم نجاعة الهندسة الإقليديّة، فإنّ مُتصوّر الفضاء سيهتزّ هو الآخر على المستوى الرّياضي والعلميّ بمُجرّد نقض إحدى نتائج المُسلّمة (Axiome) الخامسة من قوانين إقليدس الهندسة. وعندما نقول مُسلّمة في النّسق الإقليدي، فإنّ ذلك يعني حقيقة بديهيّة وحتميّة وليست في حاجة إلى البرهنة والإثبات. وعندما نتحدّث عن نقض المُسلّمة، فإنّ ذلك يعني نفي البداهة عنها وتحويلها من مُسلّمة إلى مُجرّد فرضيّة أو إواليّة (Postulat)قابلة أن تصدُق في فضاء مُسطّح، وأن لا تصدُق في أفضية أخرى غير مُسطّحة. ولنعُدْ إلى البديهة الخامسة لإقليدس.

   في الحقيقة، لم يتحدّث إقليدس في كتاب "العناصر" عن نظريّة المتوازيات، وإنّما تولّد القانون منطقيًّا ورياضيًّا من المُبرهنة الخامسة. يقول نصّ المُبرهنة "إذا قَطعنا مُستقيمان بمُستقيمٍ ثالثٍ وكان مجموعُ زاويتيْه الدّاخليّتيْن والواقعتيْن على جِهةٍ واحدة، أقلَّ من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المُستقيميْن سيلتقيان من جِهَةِ القَاطِعِ إذا مُدّ إلى ما لا نهاية"[14]. ونُوضّح المبرهنة بالرّسم الهندسيّ التّالي:

Anfasse220312

يتوضّح من الرّسم أيضا، أنّ مجموع زاويتيْ القاطع (AB) إذا كان أصغر أو أكبر من مجموع زاويتيْن قائمتيْن، فإنّ المستقيميْن(D) و(D’) سيلتقيان لامحالة إذا مُدّا إلى ما لا نهاية. ماذا يعني ذلك منطقيّا ورياضيّاً؟ يعني أنّ المستقيميْن (D) و(D’) لا يتقاطعان ويمتدّان بشكلٍ متوازٍ إلى ما لا نهاية إذا كان مجموع زاويتيْ القاطع (AB) مُساويًا لمجموع زاويتيْن قائمتيْن. ويمكن توضيح ذلك بالرّسم الهندسيّ التّالي:

Anfasse220313

نصلُ الآن إلى الاستنتاجات أو القوانين المتولّدة من البديهيّة الخامسة، لأنّه في الحقيقة لم تردْ عبارة التّوازي في مبرهنة إقليدس، وإنّما جاءت كفرضيّة منطقيّة تقول "أنّه انطلاقًا من نقطة خارجيّة (M) عن مستقيمٍ (D) يمرّ فقط مُتوازٍ واحدٌ للمستقيم (D)" ويمكن تمثيل الفرضيّة بالشّكل الهندسيّ التّالي:

Anfasse220314

في سنة 1902 قدّم هنري بونكاريه مِنْوَالاً هندسيّا يثبت فيه عدم صدقيّة مبرهنة إقليدس الخامسة وما يترتّب عنها من نتائج، لكنّ قبله بما يٌقارب القرن من الزّمان وتحديدا سنة 1820، طلبت الامبراطوريّة الألمانيّة من الرّياضي "فريديريك غوس" (Friedrich Gauss)أن يُقدّم لها مَسْحًا جغرافيّا لمساحة المملكة وهُنا فكّر "غوس" في مساحة الكرة الأرضيّة وتساءل: كيف يمكن رسم مستقيم على فضاء مُحدّب؟ وهل أنّ تعريف المستقيم بوصفه أقصر مسافة بين نُقطتيْن يصدقُ في أفضية أخرى مثل سطح الأرض؟ والسّؤال الأهمّ بالنّسبة إليه هو كيف نُنجزُ هندسةً ونحن نعيش على فضاءٍ كرويّ؟ وانطلاقا من هذه الأسئلة بدأ "غوس" في التّفكير في هندسة أخرى مُغايرة للهندسة الإقليديّة القائمة على فضاء مُسطّح أو مُستوٍ. وهي نفس الأسئلة الّتي ستفتح الطّريق فيما بعد لنيكولا لوباتشفسكي (Nicolas Lobatchevski) لينقُض المبرهنة الخامسة وفرضيّة المتوازيات فيما يُشبه القطيعة الإيبستيمولوجيّة مع النّسق الإقليدي الكلاسيكيّ.

   قدّم لوباتشفسكي منوالا هندسيّا قائما على فضاء مُقعّر وأثبت من خلاله بُطلان المبرهنة الخامسة. إذْ يمكن أن يمُرّ عبر النّقطة (M) الخارجة عن المستقيم (D) ما لا نهاية له من المستقيمات (d1,d2,d3…) مثلما هو مُوضّحٌ في الرّسم التّالي:

Anfasse220315

أمّا منوال جورج ريمان (Georg Riemann) الكُرويّ أو المُحدّب فلا يكفي أنّه ينقُضُ إمكانيّة رسم مستقيم على فضاء مُحدّب أو كُروي، فإنّه يُثبتُ استحالة رسم أيّ مُتوازٍ للخطّ (D) ويمرّ عبر النّقطة الخارجة (M).

Anfasse220316

يبدو من الرّسم استحالة رسم متوازي للخطّ (D) بحُكم أنّ كلّ نقطة خارجة عن الخطّ الذي يمرّ عبر مركز الكرة سيكون أقلّ منه ارتفاعا.

إنّ هذا التّعدّد في متصوّر الفضاء من النّاحية الهندسيّة، سيكشف لكاسيرر، أنّ الفضاء مقولة علقيّة ووظيفيّة تكتسبُ نجاعتها وصدقيتها داخل النّسق المنطقيّ والرّمزيّ الذي يحتويها. أي أنّ كلّ فضاء سواءً كان أسطوريا أو جماليا ثقافيا أو علميًّا نظريًّا، له منطقه الخاصّ ومبرّراته الدّاخليّة.

 

[1] Platon. Œuvres complètes. Paris, Gallimard, 1977, T2, p.473-480.

[2] Isaac Newton. Principia mathematica. Paris, J. Gabay, 1990, p46.

[3] Ibid, p46.

[4] Ibid, p47.

[5] Isaac Newton. Optique, trad. P. Coste, Paris 1720, p56.

[6] André Robinet, Correspondance Leibniz-Clarke, Paris, PUF, 1957.

تمّت المراسلات تحت إشراف أميرة بلاد الغال "كارولين دانسباش" (Caroline d'Ansbach) في محاولة منها للجمع والتّوفيق بين لايبنتز ونيوتن. وقد رفض نيوتن في الأوّل ثمّ خيّر أن يتراسل مع لايبنيتز عن طريق سامويل كلارك (Samuel Clarke) قسّ القصر الملكيّ، وهو الناطق بلسان نيوتن. وقد توقّفت المناظرة عند المراسلة الخامسة من كلارك على إثر موت لايبنيتز سنة 1716.

[7] Ibid. 4 ème Lettre, remarque 27. p93.

[8] Ibid, p52.

[9] Emmanuel Kant. Critique de la raison pure. Paris, Librairie philosophique de Ladrange, 1845, P103.

[10]  يُعتبر الدّوس على ظلّ الشّخص في كثير من التّقاليد إلى اليوم إلحاقا للأذى.

[11]  تتأكّد هذه الفكرة في علم نفس النموّ عند بياجيه، من خلال ظاهرة مركزيّة الذّات أو الأنويّة. فالطّفل الشّبيه بالإنسان البدائي في أطواره الأولى يتأمّل العالم انطلاقا من رؤيته الخاصّة معتقدا أنّ كلّ ما يُحيط به هو في خدمته وهو في نفس الوقت امتداد لجسده وذاته ورغباته.

[12] أرسنت كاسيرر. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانيّة أو مقالٌ في الإنسان. ترجمة إحسان عبّاس، بيروت، دار الأندلس،1961، ص99.

[13] نتحرّز بكلّ لطف على ترجمة إحسان عباس (Présentation) بـ "الحَمل" و(Représentation) بـ "النّقل"، وهي ترجمة بعيدة كلّ البُعد عن المعنى المقصود في النصّ الأنقليزي.

[14] Euclide. Les Eléments. Traduction par F. Peyrard, Paris, 1804.