لكي يتوصّلَ المرء إلى الحقيقة، ينبغي عليه مرة واحدة في حياته أن يتخلص نهائيًا من كل الآراء الشائعة التي تربّى عليها وتلقاها من محيطه، ويعيد بناء أفكاره بشكلٍ جذريّ من الأساس. ديكارت.

مقدمة:

يمكن في البداية تعريف عصر التنوير (Age of Enlightenment) بأنه السياق الزمني الذي تخاصبت فيه الجهود الفكرية التنويرية لكبار الفلاسفة والمفكرين أمثال رينيه ديكارت فولتير(René Descartes: 1596-1650) وفولتير - فرانسوا ماري آروويه (François-Marie Arouet:1694-1778) ومونتسكيو- شارل لوى دى هايكوندا (Montesquieu: 1689-1755) ودنيس ديدرو (Denis Diderot: 1713-1784) وكوندورسيه - ماري جان أنطوان نيقولا كاريتات ( Marie Jean Antoine Nicolas de Caritat: 1743-1794) (1743-1794) وديفيد هيوم (David Hume: 1711-1776) وإيمانويل كانط (Immanuel Kant: 1724-1804 ) وإسحاق نيوتن (Sir Isaac Newton: 1642-1727) وبنجامين فرانكلين (Benjamin Franklin: 1706-1790) وجان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau: 1712-1778) و جون لوك (John Locke: 1632-1704) وآدم سمث (1723-1790) وديفيد ريكاردو (David Ricardo: 1772-1823) ,وجوليان جان أوفري دو لا ميتري (Julien Offray de La Mettrie: 1709-1751). وقد شكلت أعمال وأفكار هؤلاء المفكرين من مختلف المشارب العلمية والاجتماعية قوة تنويرية هائلة هدفت إلى تحرير المجتمعات الأوروبية من أوهامها الأسطورية والخروج بها إلى عالم المعرفة والتنور والحرية، كما تمثلت هذه الحركة التنويرية في العمل على إخراج المجتمعات الأوروبية من الظلمات إلى النور ومن السلطات الكهنوتية البابوية إلى أنظمة سياسية ديمقراطية وعلمانية. ويمكن القول أيضا إن عصر التنوير وجد صداه الكبير وتأثيره العظيم في مختلف مظاهر الحياة الفكرية الأوروبية في القرنين السابع والثامن عشر.

والتنوير بالتعريف حالة حضارية ذهنية متوقدة، يدك فيها الإنسان جدران الأوهام، ويدمر عبرها أركان الوصاية على العقل بوصفه الجوهر الإنساني في الإنسان. إنها وفقاً لمنظور "كانط" الوضعية التي يخرج فيها الإنسان من دائرة الخرافات والأوهام، ليحطم كل أشكال العطالة الذهنية والجمود ومقاليد الوصاية على العقل. وفي هذا كله تأكيد لسيادة العقل وسلطانه حيث لا يكون سلطان فوق سلطانه؛ ولذا غالبا ما يقترن مفهوم العقل بمفهوم النور أو التنوير في الحضور والغياب، يقابله هذا الاقتران الكبير والجوهري بين الجهل والظلام. وضمن توجهات هذه المعادلة التنويرية، يكون حضور العقل حضوراً للتنوير وغيابه حضوراً للجهل والظلام. ومن الواضح تاريخياً في هذا السياق، أن حضور العقل والعقلانية كان في أصل كل حضارة وتقدم، حيث كان العقل، وما ينتجه من حكمة وعلم وبرهان، هو أداة الإنسان لفهم الكون والإفادة الرشيدة من الطبيعة؛ بما يحقق الغايات الإنسانية النبيلة. فالعقلانية هي التي منحت الإنسان القدرة على التحرر من غوائل الطبيعة والانتصار على كل أشكال الضعف والقصور لبناء حضارة الإنسانية والإنسان.

انحراف المسار التنويري :

ومع أن التنوير ولد على صورة حركة إنسانية أخلاقية تحررية في جوهره فقد تعثرت خطاه وانحرف مساراته وفسدت مراميه ومآلاته وسقطت تطلعاته الإنسانية والأخلاقية في سياق تطوره التاريخي والحضاري، وانتهى به الأمر به إلى الانقلاب على مسيرته الواعدة بتحرير الإنسان إلى قوة استلابية تحاصر الإنسان وتضعه في مهاوي الاغتراب وزنزانات البؤس والاستلاب. وتحولت الحداثة التنويرية فيما بعد إلى دريئة تتقاذفها السهام من كل حدب وصوب وجانب. وعليه تعرضت الحضارة الغربية بنهضتها وحداثتها وأنوارها إلى النقد العنيف من قبل كبار الفلاسفة والمفكرين منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم، ودأب كبار المفكرين على نقد أبنية الحضارة الغربية والكشف عن التناقضات الكبيرة في مسيرة التنوير الغربي. ومن يطالع مسيرة التفكير الفلسفي سيجد بأن هذه الحضارة قد تعرضت للنقد الشديد من قبل ماركس وفرويد ونيتشة وكانط وروسو وعدد كبير جدا من المفكرين والباحثين، ويتمركز هذا النقد على المسيرة الانحرافية للحضارة الغربية التي أدت إلى صيغ متعدد من الشقاء الإنساني والبؤس الأخلاقي. ويبدو واضحا للعيان أن المشروع الحضاري الغربي قد أنتج الحروب العالمية المدمرة وأدى إلى استعمار الشعوب وانتهى إلى وضع الإنسانية في أقفاص الشقاء الاغترابي.

ومن منطلق هذه الرؤية السوداوية لوضعية التنوير لم يتردد ألبرت شفايتزر (AlbertSchweitzer;1875-1965) الحائز على جائزة نوبل للسلام في الإعلان بأن العالم يسير نحو الهاوية وإننا نعيش في ظل انهيار الحضارة الإنسانية، وعلى خطاه دأعلن الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنغلر (Oswald Spengler:1880-1936) في كتابه (انحدار الغرب) أنّ الحضارة الغربية تتساقط وتلفظ أنفاسها الأخيرة وقد حكم عليها بالموت والدمار. وقد سبق للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه "Nietzsche" (Friedrich Nietzche:1844-1900) أنه أعلن أن الحضارة الغربية سقطت في الهاوية واختلت موازينها الأخلاقية. والحضارة المعاصرة ([1]). وهذا كله يتساوق مع نظرية سيغموند فرويد الذي يعلن بدوره عن تآكل هذه الحضارة إذ يقول " نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية".

لقد اعتقد غاستون باشلار الذي ولد في 27 يونيو 1884 وتوفي في 16 أكتوبر 1962 بأن العلم لا يأتي من صقل الحدس الحسي. فالحقيقة العلمية لا يمكن العثور عليها في التجربة؛ إنها تجربة يجب تصحيحها من خلال تجريد المفاهيم. لكن هذه العوائق المعرفية ليست أخطاء عرضية بسيطة، فهي تتضمن أطروحة تم التعبير عنها في الروح العلمية الجديدة: "العلم يخلق الفلسفة"، ثم بطريقة جدلية وبرمجية في فلسفة النفي حيث لا تقتصر فلسفة العلم على مبادئ العلم الخاصة، ولكنها قد تضم الموضوعات العامة أيضا.
في عام 1934، عندما نشر غاستون باشلار كتابه "الروح العلمية الجديدة" وظهر كتاب كارل بوبر "منطق البحث"، لم يكن هناك من الفلاسفة من يخالف الرأي القائل بأن العلم يتطور على نحو خطي أو أحادي، بحيث يترك المعنى وقيمة الحقيقة دون تغيير، على أساس توفره الخبرة المشتركة. بل إن مايرسون تعهد بإثبات أن نظرية النسبية يمكن استنتاجها من مبادئ نيوتن، وكان من المعتقد على نطاق واسع أن مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية، من جانبهما، ليست سوى تحسين لمفاهيم الحياة اليومية. ومنذ ذلك الحين، كان باشلار في فرنسا، وبوبر في إنجلترا، أكثر من أي شخص آخر مسؤولاً عن تسرب حقيقة ثورية عميقة بالنسبة للفلسفة، وهي ظاهرة الانقطاع العلمي فيما يتصل بالحس السليم أو الخبرة والتغير. ولقد حاول باشلار وبوبر تسجيل هذه الظاهرة بعبارات متشابهة إلى حد مذهل. ولكن لم ينجح أي منهما، ولا التقاليد النظرية التي دشناهما، في استيعاب أهميتها الكاملة بالنسبة للفلسفة. ويشكل كتاب دومينيك ليكور "الماركسية ونظرية المعرفة" وكتاب بول فايرابند (13 يناير 1924 – 11 فبراير 1994) "ضد المنهج" ضم تعليقين مطولين على هذه التقاليد ومحاولاتها لنظرية الانقطاع والتغير العلميين ـ الأول إشادة محترمة "من الخارج"؛ والثاني جدل "شرير" من الداخل. ولكن لماذا يخلف الانقطاع والتغير العلميان مثل هذه العواقب المزعجة على الفلسفة؟ إن إدراكهما يكسر العلاقة المتميزة بين الذات والموضوع، والتي تربط الفكر بالأشياء في الفلسفة الكلاسيكية على نحو فريد. والآن لا يمكن النظر إلى الفكر باعتباره وظيفة ميكانيكية لأشياء معينة كما في التجريبية؛ ولا يمكن اعتبار نشاط الموضوعات الإبداعية بمثابة مصدر يمنح العالم أشياء كما في المثالية)؛ ولا يمكن الجمع بين الاثنين. باختصار، يصبح من الضروري التمييز بوضوح بين الأشياء الحقيقية الثابتة التي توجد خارج العملية العلمية والأشياء المعرفية المتغيرة التي يتم إنتاجها داخل العلم كوظيفة للممارسة العلمية.

في المحور الثالث، تحدثت الفيلسوفة فرانسيسكا باربو عن الصعوبات المتعلقة بالحرية وقدمت بعض الشروحات من النوع الأول. في هذا الإطار، ذهبت إلى أن الأسباب الجوهرية للاختلاف بين هذه الطريقة وتلك في اتخاذ القرارات الحرة موجود بكل تأكيد ضمن المكونات العديدة التي ساهمت فيها (تلك التي تمت الإشارة إليها جزئيا في السطور السابقة). وهذا أيضا يحدد تصوراتنا المختلفة عن الحرية؛ الشيء الذي تعهدت الكاتبة بإضاءته بسرعة كبيرة، مركزة اهتمامها على بضع نقاط فقط. وبعد ذلك ستنتقل إلى الأسباب الأكثر عمقا، وربما الأكثر أهمية.
في علاقة بالحقائق الدلالية مقابل الحقيقة الأنطولوجية، وقفت الفيلسوفة عند ما رأته أكثر أهمية؛ واقصد به قناعات كل شخص. الأمر يتعلق بهذه "الحقائق" التي يعترف بها كل واحد منا، في أعماقه، في ما يتعلق بمكونات قراراتنا الحرة. وفي هذا الصدد، يجب أن نتذكر حقيقة أن: القضية تكون «صادقة» ما دامت أنها «تقول» ما «يوجد» في موضوعها. القضية الصادقة تتطابق إذن مع "حقيقة هذا الشيء" (في هذا الجانب أو ذاك): حقيقته الوجودية". "حقيقة القضايا" تسميها الكاتبة "الحقيقة الدلالية"، تحديدا لتمييزها عن "الحقيقة الوجودية" المذكورة أعلاه.
وعن الحقائق الدلالية المتعلقة بالحرية، قالت الفيلسوفة إن هذه الحقائق، التي تلعب دورا في قراراتنا الحرة، تعنى، في مقام أول، بهذا الذي نعتبره صالحا (ممتعا، مفيدا، نافعا، صادقًا..)؛ الأمر يتعلق بشكل أساسي بما هو جميل بهذا القدر أو ذاك. في كل الأحوال، يتم التفكير في ذلك دائما بهدف معين، يوحد الحياة؛ ربما، في علاقة بمثل أعلى محدد.
في ما يخص الاختيارات التي يمكننا القيام بها (والتي بجب أن تعنى بما هو "خير") المهم هو أن نفهم "ما هي الأشياء" في الواقع. أما بخصوص القرارات المرتبطة بأحداث في حياتنا فالأمر يتعلق بالتعرف على "ما يحدث" حقا. بينما ليس من المهم على الإطلاق معرفة ما قالته هذه الشخصية أو تلك.