
لم تكن البداية الأولى للفلسفة مع طاليس Thalès (حوالي 625 ق.م.-547 ق.م) يقينا أقر به جميع مؤرخي الفلسفة؛ بل ظلت مجرد فرضية تاريخية انجذب إليها أغلب المؤرخين؛ وظل يتشكك في صحتها الآخرون. وكما تواضعت جماعة من المؤرخين على صياغة فرضية تاريخية للبداية الأولى للفلسفة، اجتهد جان باتوكا Jan Patocka في تصور إمكانية لبداية ثانية لها. وغرابة هذا التصور تكمن في كونه يقترح هذه البداية الثانية مع مشروع فيلسوف بات مشدود الوصال إلى الموطن الذي احتضن البداية الأولى: اليونان. فصاحب ذلك المشروع وإن كان ينفصل، زمانيا، عن البداية الأولى بما ينيف عن ستة وعشرين قرنا؛ فإنه يتصل، جغرافيا، بنفس القارة التي كانت مسرحا لها؛ وفلسفيا، بينابيع البدايات الفلسفية اليونانية الأولى. وهذا الفيلسوف هو مارتن هايدغر Martin Heidegger (1889-1976) صاحب كتاب الوجود والزمان.
وجان باتوكا فيلسوف تشيكي ولد سنة 1907. ويعتبر من بين تلامذة كل من إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) ومارتن هايدغر، الذين تابع محاضراتهما الفلسفية في الجامعة. وقد اهتم بالفلسفة اليونانية، وخصوصا بفلسفة أرسطو Aristote (384 ق.م-322 ق.م). كما درس تراث مفكري بلده بوهيميا Bohéme. وقد حافظ طوال حياته على وفائه المزدوج للميتافيزيقا بصفتها موردا قديما، وباعتبارها، في الوقت الراهن، مصدرا للتساؤل؛ وللفينومينولوجيا بصفتها منهجا للقطع مع الحس المشترك ولتجذير الأسئلة وإضاءة السياقات. وتوفي يوم 13 مارس من سنة 1977 بعد خضوعه لسلسلة من الاستنطاقات البوليسية المرهقة. فقد كان، في ظل نظام الضبط التشيكوسلوفاكي، ناطقا بلسان بيان ميثاق 77 من أجل الحريات وحقوق المواطنة.
وقصد تتبع وجهة نظر هذا الفيلسوف من إمكانية نهاية الفلسفة، سنعمل على قراءة محاضرة ألقاها عدة مرات خلال سنة 1974 حول سؤال ينصب عما إذا بقي للفلسفة شيئ ما تقوله لنا في ظل الوضعية الراهنة للعالم؛ و"وسط الضعف العام والامتثال للانحدار". وقد نشرت هذه المحاضرة كجزء من ملحق كتاب جان باتوكا: أفلاطون وأوروبا؛ تحت عنوان: "هل نهاية الفلسفة ممكنة؟".
إن الحديث عن نهاية الفلسفة يرتبط بالإقرار بأزمتها. ونحن، اليوم، نحكم على الفلسفة بالأزمة؛ لأننا نلاحظ نقصا في الجدة التي عرفت بها، وتراجعا في قيمتها وفعاليتها الاجتماعيتين اللتين عهدناهما فيها، خاصة مع الفلسفة الهيللينية. وعلى العموم، فمفهوم الأزمة، هنا، يكتسب معناه من خلال المقارنة بين فلسفة اليوم وفلسفة الأمس. ومن خلال هذه المقارنة يتأكد الجميع من لا جدوى الفلسفة الراهنة التي، عوض انصرافها إلى البحث عن الأفكار الجديدة، نجدها تجادل ضد الفلسفة بما هي فلسفة، وتمارس شكا ذاتيا على نفسها.