لا أحد من المشتغلين بالحقل الفلسفي سواء كان طالبا أو مدرسا أو مفكرا ينكر أن الفسلفة ذات طابع نقدي، وأنها قد تتخلى عن القيام بالشغب والبناء الفكري الذي تأسست من أجل القيام به. هذا الشغب الفكري ينبني على عدم القبول بالجاهز غير الواضح، وعدم قبول ما هو متستر وراء خلفيات وادعاءات تقدم نفسها على أنها فكر ونقد لوضع قائم، في حين أنها في الغالب مجرد أفكار لا ترى إلا نفسها تنطلق منها لتعود إليها في غياب تام للعقل، فهي إذن بمعنى من المعاني ذات صبغة مرضية لا ترى الآخر وفكره. من اجل مواجهة هذا النوع من "التفكير" تأسس الفكر الفلسفي باعتباره ثورة أو على الأقل دعوة إلى الثورة على التسطيح الفكري وعلى عدم الالتزام النقدي اتجاه مختلف القضايا كيفما كانت طبيعتها، فلا يمكن للنقد أن يكون بوجه من الوجوه نقدا انتقائيا، نقدا لليمين دون اليسار أو نقدا للأعلى دون الأسفل ...
في هذ المسألة بالذات - مسألة النقد – تلتقي الفلسفة وتشترك مع المراهق، ذلك أن من أهم سمات هذا الأخير هي الثورة والدعوة إليها، وإن بوسائل أولية تتطبع بخصائص المرحلة التي يعيشها، إلا أن هذه الثورة تتخذ طابعا عاطفيا أو إن ما يحركها يكون عاطفيا في حين أن ثورة الفلسفة تحركها مبادئ عقلية.
إذن المراهق والفسلفة يشتركان بطبيعتهما في الدعوة إلى التجديد والنقد وبناء رؤى ونماذج أخرى للواقع تستجيب للمتطلبات العقلية والعاطفية كل حسب هدفه. بهذا المنطق يكون المراهق مستعدا بالطبيعة للانخراط في الفعل الفلسفي عامة والدرس الفلسفي المدرسي على وجه الخصوص، ذلك أن "مبادئ الفلسفة" جزء من مبادئ المراهق المعيشية واليومية ذات الطابع العاطفي. وبذلك يبقى المطلوب أو الواجب الذي يجب أن ينشغل به المدرس هو كيفية تحويل هذا الهم العاطفي الداعي إلى التغيير من طرف المراهق إلى هم عقلي منضبط برؤى نقدية باعتبار هذا الهم الأخير من مشاغل الفكر الفلسفي.
هيرمونطيقا الخطاب الفلسفي العراقي : قراءة فلسفية/تأويلية في قُدْسِية اللغة ومُتخَيّلها الأنطولوجي في مدرسة بغداد الفلسفية ـ حيدر علي سلامة*
تُمثل دراسة الأستاذ الدكتور حسن مجيد العبيدي (تأويل النص القرآني الفلسفي العراقي المعاصر – عرفان عبد الحميد فتاح انموذجا)** واحدة من الدراسات الفلسفية التي تضمنت على كبرى اشكالات خطابنا الفلسفي قديما وحديثا. حيث نجحت الدراسة في تسليط الضوء على اشكالات فلسفية وانطولوجية وانطو-ثيولوجية/كلامية ولاهوتية، وعلى طبيعة التداخل بين جدل لاهوت المقدس الصاعد من جهة، وجدل لغة انطولوجيا الذات النازل من جهة اخرى. من هنا، ستحاول قراءتنا الولوج بين ثنايا تلك الاشكالات الفلسفية العويصة والشائكة والمعقدة إلى حد كبير، سيما وان دراسة الاستاذ العبيدي تجعلنا نقف امام محنة فلسفية كبيرة في الفكر الفلسفي الإسلامي، ألا وهي: محنة تأويل النص القرآني وعلاقته بالخطاب اللغوي و"الدراسات اللسانية" المتداخلة مع نسق اللاهوت الميتافيزيقي من جانب؛ والقيميّن على استمرارية "لغة وبلاغة وعلم نحو اللغة المقدسة" من فلاسفة ومتكلمين ومتصوفة من جانب اخر.
ولهذا، سينصب جهد قراءتنا على ثيمة "اللغة وسياسات إنتاج المعنى المتعالي/القدسوي"، لما تشغله من أهمية ابستمولوجية وثقافية في إعادة رسم ملامح خريطة المشهد الفلسفي العراقي، المستند على اسس لسانية ومنطقية ولغوية، عملت جميعها على إنتاج "هوية التطابق الميتافيزيقي الكوزمولوجي" لذلك المشهد. والذي ادى في نهاية المطاف، إلى اختزال قضية تأويل النص القرآني في الخطاب الفلسفي العراقي ضمن "قراءة توتولوجية منطقية ملهوتة" تنطلق من المقدس وتنتهي به؛ ومن لسانيات اللاهوت لتنتهي بالخطاب المتعالي/الميتافيزيقي؛ ومن حدوث الكلام الإلهي لتنتهي بقدمه؛ ومن الثيولوجيا لتنتهي بالأنطو-ثيولوجيا...الخ. فمن خلال هذا الجدل نحاول إعادة قراءة تاريخ المنشور الفلسفي العراقي، سيما المنهمك منه في بنية وتأويل خطابات العلوم الكلامية والصوفية والفلسفية، ليتسنى لنا الوقوف على طبيعة تاريخ القراءات وتحولاتها في ارشيفنا الفلسفي، ومدى نجاحها في الأنعتاق من سيطرة "البرادايمات التوتولوجية المُلهوتة والمقدسة" للنص الديني من جهة، وللنص الفلسفي من جهة أخرى.
تقنيات العناية بالذات في النشاط الفلسفي ـ د. زهير الخويلدي
إلى ميشيل فوكو بعد انقضاء ثلاثة عقود عن رحيل جسده وديمومة فكره
" إن وجود فلاسفة محترفين يخطبون ويطلبون ويؤكدون ويلحون على أن نهتم بأنفسنا لم تكن لتمر من دون أن تطرح عددا من المشكلات السياسية التي أثيرت حولها مناقشات مهمة للغاية."1[1]
بين الذات والحقيقة علاقة لا ينكرها إلا من لم يعتن بذاته ولم يبحث عن الحقيقة وعاش أبد الدهر مغمض العينين ولم يحاول معرفة نفسه والاستطلاع في العالم المحيط به والخوض في رحلات وتجارب المعنى. بيد أن العلاقة مع الذات قد لا تكفي معرفة الحقيقة الذاتية للتعبير عن مختلف أبعادها و إدراك ما في بواطنها. وبناء على ذلك يمكن تعويض الاهتمام بالذات والاشتغال على الذات بالعناية بها Souci de soi 2[2] قصد تجنب السقوط في أهواء الانشغال ومتاهات الانهمام دون إضاعة الفرصة للإقامة في الذات والسير الحثيث إليها. لا مناص من القول بأن العناية بالذات مثلت لُبَّ النشاط الفلسفي وطريقه المستقيم ، والآية على ذلك شدة الدفاع عن النفس عند التعرض للمخاطر والأذى وتشييد الحكمة على هذه المقارعة المستمرة للخارج. لكن لماذا تم تفضيل مبدأ اعرف نفسك كتقنية رسمية للنشاط الفلسفي على حساب مبدأ اعتن بنفسك؟ وما الذي حدث للإنسان في الزمن ما بعد الحديث لكي يعيد من جديد تعريف النشاط الفلسفي على ضوء مبدأ العناية بالذات؟ وبعبارة أخرى بأي معنى يمثل مطلب العناية بالذات أحسن التقنيات الإيتيقية الممكنة لتقدير الذات؟.
سيرورة التثقف وتبدل الأطوار الحضارية ـ د. زهير الخويلدي
استهلال:
" إذا كانت الثقافة تتجلى عبر نوع من الأذى الدائم فإنها مع ذلك نعمة لا تقدر بثمن"1[1]
يبدو أن النظر في ماهو إنساني يستوجب منا العودة إلى ماهو ثقافي وحضاري وذلك لكون الهوية الإنسانية لا تتحقق إلا بالثقافة والتحضر وذلك لكون الهوية الذاتية للفرد لا تتشكل بمعزل عن هويته الاجتماعية ولقائها بالأغيار واستفادتها من التراث الإنساني والتجارب التاريخية المشتركة. إذا أضفنا ما يميز الإنسان عن غيره من مجموعة المحددات الثقافية مثل اللغة والدين والفنون ومختلف العناصر المكونة للخصوصية ومنظومة القيم وأنماط السلوك الأخرى التي ينخرط في ممارستها تأكيدا للانتماء فإننا نستخلص من ذلك انقسام الإنسانية الكونية إلى مجموعة من الخصوصيات تتجلى في تعدد الهويات الثقافية وتنوعها. غير أن المشكل الفلسفي الذي يطرأ هنا يتعلق بمجال تكوينية الهوية الثقافية بين المفرد والجمع ومراوحتها على المستوى التاريخي بين التشكل والازدهار من جهة والانحطاط والأفول من جهة أخرى. بعد ذلك يتراءى لنا مشكل جديد يتعلق بعلاقات الثقافات فيما بينها وميلها إلى التمركز على الذات وإعلان التفوق واحتكار التكلم باسم بالتحضر والعالمية ودخولها في تنافس يتحول إلى صراع واستبعاد لغيرها.
المشكل الثالث الذي يبرز للعيان هو مخاطر المديح الذاتي والقول بالخصوصية الثقافية على ترسيخ قيم كونية حضارية تبشر بالتسامح والتساوي وتدعو إلى الانفتاح والتعارف ومخاطر العولمة على الهوية. في هذا الإطار ماهو مفهوم الثقافة ؟ وما الهوية؟ وهل توجد ثقافة أم عدة ثقافات؟ وما علاقة الثقافات بعضها ببعض؟ هل تقوم على التهميش والهيمنة والقول بأفضليتها على حساب الأخرى أم تتغذى من التنوع والديناميكية والانفتاح وتستثمر التقاطع مع غيرها من أجل التثاقف المثمر والتفاعل التوليدي الخلاق؟ وما المصير الذي ينتظر كل هوية ثقافية ؟ هل تتعرض للتحجر والجدب أم تنصهر في الحضارة الكونية ؟ بعبارة أخرى ما الذي يميز الهوية الثقافية ؟ هل قدرتها على أن تظل حية ومحافظة على قوتها وإبداعيتها أم أن مصيرها ينتهي إلى التقوقع والانحدار والسقوط ؟ وكيف السبيل إلى احترام حق الضيافة الكونية؟
نحن متساوون في جهلنا المطلق ـ أ. عبد القادر ملوك
كُتب و مقالات عديدة دبجت في التواضع في معناه المعرفي و ليس الأخلاقي و إن كانت الحدود بين المعنيين رقيقة و رفيعة إلى درجة أن أغلبيتنا ربما لا ترى أي فارق يذكر بينهما، من منطلق أن التواضع تواضع و كفى، فهو حكم معياري يصدر في حق الفرد جملة واحدة دون تمييز فيه بين ما ينتمي إلى هذا الجانب أو ذاك. و مع ذلك نحن نقصد بالتواضع المعرفي إدراك المرء و إقراره بأنه لا يُحصل من المعرفة و من العلم على وجه التحديد إلا النزر اليسير بل حتى ذلك النزر لا يصل فيه مطلقا درجة اليقين و إن بلغ مرتبة الصحة، و بين الصحة و اليقين فرق لا ينبغي إغفاله يعادل الفرق بين النسبي و المطلق أو بين المؤقت و الدائم.
التواضع المعرفي أو العقلي يفيد، إلى حد ما، ما يسميه بوبر باللامعصومية التي تعني الإقرار بأن العقل البشري ليس معصوما من الخطأ، بل هو عرضة له في كل حين، و هو رفيق اجتهاده، إذا تجنبه حينا فهو ملاقيه حتما حينا آخر. و في مقابله يقف مفهوم آخر مناقض له يسميه بوبر بالنزعة التعالمية التي تشي بنوع من الغطرسة العقلية و التي يعرفها قائلا: هي "نظرية إضفاء السلطة على المعرفة و العارف، على العلم و العلماء، على الحكمة و الحكيم، على التعلم و المتعلم. "[1]
مسعانا في هذه الورقة يتحدد في الوقوف على المفهوم الأول، نقصد مفهوم التواضع العقلي أو المعرفي من خلال منظور كارل بوبر بالخصوص الذي عبر عنه في مؤلفه "نحو عالم أفضل"، مسلطين الضوء في عجالة على بعض اللحظات من مشوار المعرفة الطويل الذي كشف من خلاله بعض من ساروا في دربه و اعتلوا ذراه على أن المعرفة مهما بلغ صاحبها من الدقة و سعة الاطلاع، تبقى معرفة دون مستوى اليقين، لذلك لا لزوم لأية غطرسة معرفية في مجال العلم و المعرفة ما دامت هذه الأخيرة تشعرنا بضآلة حجمنا فتلزمنا شئنا أم أبينا بالتحلي بالتواضع المعرفي.
فلسفة الرياضيات عند فيتاغورس ـ منيـر برقاد
في أفق هذه المقاربة الإبستيمولوجية الأولية، يمكن إستحضار الأطروحة التي تقول: "ان فلسفة المعرفة العلمية فلسفة مفتوحة. إنها وعي فكر وهو يؤسس ذاته في خضم كشفه عن المجهول، وبحثه في الواقع عما يتعارض مع المعارف السابقة."(غاستون باشلار)أجل، لقد بلغت الفلسفة إلى الذروة في قطعها لمسافات معرفية كبيرة لا تخلو من التأمل والطرح المستمر للسؤال، وذلك باعتمادها على مقوم العقل والمعرفة والتفكير، في سبيل إدراك مسار العلوم وما يخلفه من نظريات علمية نظرية وتجريبية ومسائل مركبة حول الوجود، هذا هو حال الفلسفة كبحث مستمر عن تجليات الوجود في رمته، فهي تجرد من نفسها صورة ثانية لكي تتأملها وتناقش معاني الحياة البشرية. فتحوجها الضرورة فتضطر إلى إبداء ما توصلت إليه من تأملات وإستنباطات حول موضوعات متعددة كالعلم، الطبيعة،المنهج، القيم، السياسة... فالفلسفة تسمو عن محاولة إعتبارها علما من العلوم الطبيعية أو كونها نظرية من النظريات، فهي تفكير عقلي مستمر لا متناهي في مختلف حيثيات الوجود البشري المتغير بإستمرار.
تعمل الفلسفة على التوضيح المنطقي للأفكار العلمية، وتصبح كفاعلية شمولية تضم الأفكار إليها وتناقشها وتحددها بكل دقة وترصد الاشكالات المبهمة الغامضة، إن مسار الفلسفة هو مليئ بالتشعبات والتفرعات، أي أننا نجد الفلسفة حاضرة في كل أصناف العلوم، من علم طبيعي، إلى علم إنساني تطرح نفسها بإلحاح وتلقي بأفكارها النظرية حول مرامي وتجارب تلك العلوم وتكشف أخطائها ومعارفها وتفند فرضياتها بطرح أسئلة جديدة.
وُجُـــوه "المُثقَّــف" أو ضرورة تفكير المفهوم.. ـ صلاح بوسريف
لم يَعُد مُمْكِناً ربْط هذا المفهوم بشريحَةٍ من المُتَعَلِّمين، أو العاملين في حَقْلٍ من حُقول العلم والمعرفة، دون غيرها من الشَّرائح الأخرى العاملة في إحدى هذه الحقول. ثمَّةَ من يعتبر كُلّ مُتَعَلِّمٍ، يُجيد القراءةَ والكتابةَ، ويَمْتَلِك قَدْراً من المعرفةِ، أو بَلَغَ مُسْتَوًى من التَّعَلُّم يسمح له بمُواصَلَة المعرفة والتَّعَلُّم والبحث أو الاطلاع وتوسيع مَدَارِكِه، مُثَقَّفاً، ويُدْخِلُ ضمن هذا المعنى العام والواسع، المُوَظَّفِين في مختلف القطاعات، والمُعَلِّمين والأساتذة، والعاملين في قطاع الإعلام، والأطباء والمهندسين، والتقنيين، والطلبة ممن يُتابِعون دراساتهم في الأسلاك العالية من التعليم، في مختلف الشُّعَب والتَّخَصُّصات. كما أنَّ هُناك من ضَيَّقَ المفهومَ وحَصَرهُ في فِئَة من الناس، أو نُخْبَةٍ منهُم، وهي تلك النُّخبة من المفكرين والكُتَّاب والمبدعين، التي تعمل في حقل الفكر والفن والإبداع، ممن يُنْتِجُون الرُّموزَ والدَّلالاتِ، ولم يسمح لغير هؤلاء بِحَمْل هذه الصِّفَةِ، أو ادِّعائها، تفادياً للتَّعميم، أو لِتَعْتِيم المفهوم وتَمْيِيعِه.
شخصياً، أعْتَبِرُ هذا المفهومَ، مثلَه مثل مفاهيم أخرى إشكاليةً، تَتَّسِم بالمُرُونة، بقدر ما تَتَّسِمُ بالعُسْر وصُعوبةِ الحَسْم، بين المفاهيم الأكثر قابِلِيَةً للِتَّغَيُر، وحَمْل أو تَشَرُّب المعاني الجديدة التي تَطْرأُ في مجالَيْ العِلم والمعرفة. فَقَصْرُ هذا المفهوم، وحَصْرُه، أو إغلاقُه على مَعْنًى واحد، شامِلٍ ونهائيٍّ، هو حَصْرٌ للثقافة والمُثَقَّف ومَعْيَرَتُهُما، أو وضعُهُما في قارُورةٍ لا تَسْمَحُ للنَّفس باسْتِنْشاقِ الهواءِ، بدعوَى أنَّ الشمس تَخْتَرِقُ زُجاجَها، وأنَّ هذا يكفي لتكونَ للمفهوم حياة.
وفق هذا المعنى أنظرُ إلى المثقف باعتباره مُنْتِجَ رُموز ودلالاتٍ، ومُقْتَرِحَ أفكارٍ، ومُساهِماً في مُراقَبَة ونقد ما يجري في الحياة العامة، ليس باعتباره مسؤولاً في قطاعٍ من قطاعات الدولة، أو زعيمَ حزبٍ، أو أحد العاملين في قواعده، أو «خبيراً» في الشأن السياسي. بل إنَّه صاحب فِكْر ونَظَر، ومُنْتِج مفاهيم ورموز ودلاتٍ، ملاحظاً وباحثاً ومُتأمٍّلاً، يتدخَّل في الشأن العام، ليس بنفس رؤية السياسيِّ أو التقنيّ المُخْتَصِّ في مُعالجَة الطَّواريء. فالمثقف ليس إطْفائياً، فهو لا ينتظر اشْتِعالَ الحرائِق، أو يكتفي بالنَّظر لِما تتركُه خلْفَها من رَمادٍ، إنَّه صاحِب رؤية للعالم، وصاحِبُ رؤية اسْتِشْرافيةٍ، تقوم على قراءة وتحليل للمُعطيات والأحداث والوقائع، وهو، أيضاً، صاحب حَدْس وخيال، حتى لا نقصر المفهوم على العقل، الذي هو عَطَب مَنْ اعتبروا الخيال خاصّاً بالشُّعراء والرومانسيين الحالِمِين، وهو مُنافٍ للعقل، أو هُما لا يجتمعان.
الإيديولوجيا: المصطلح الشائك بين حقيقة الاصطلاح وتعسف الاستخدام ـ عبدالله الكندي
يجمع عدد كبيرمن الباحثين في العلوم الانسانية على أن مصطلح الايديولوجيا لا يتجاوز في نشأته واستخدامه المائتي عام، على اعتبار انه ظهر لأول مرة في مؤلفات المفكر الفرنسي إنطوان دي ترسي (Antoine Destutt de Tracy) في نهاية القرن الثامن عشر. لكن على الرغم من ذلك شغل المصطلح اهتمام عدد كبير من الباحثين والمفكرين في مختلف مجالات العلم والفكر، الأمر الذي تطور بمرور الزمن مما ساعد على "تعويم" استخدام المصطلح بل التعسف أحيانا كثيرة في طرحه وتناوله، يطرح هذا المقال نقطة أساسية تتعلق بمصطلح الأيديولوجيا في نشأته الأولى من المنظورين الغربي والعربي وتلك التطورات، أو لنقل نقاط التحول أو التحوير التي مر بها المصطلح.
يعود الفضل في نشأة واستخدام مصطلح الأيديولوجيا الى المفكر الفرنسي إنطوان دي ترسي وذلك في نهاية القرن الثامن عشر (1797) ودي ترسي كان يقصد به علم الأفكار Science of ideasذلك المنهج الجديد الذي يمكن من خلاله التوصل الى الحقيقة اعتمادا على التفكير والتحليل وبالتالي القضاء على الأوهام والمبررات الميتافيزيقية في تفسير الظواهر. ويبدو واضحا أن هذا الفيلسوف الفرنسي عندما بدأ في تأسيس علم الأفكار/الأيديولوجيا التزم بالمعنى اللغوي المقابل للمصطلح وضمنه نظاما متكاملا من الخطوات المنهجية يتم الاعتماد عليها في الوصول الى الحقيقة "الكلية" مستبعدا كل التبريرات التي يصنعها البشر أنفسهم فيستغنون بما يملكون من تفسيرات جاهزة للظواهر عن دراستها وفحصها بشكل متعمق يصل الى اجابات جديدة وأسئلة أخرى.
جدل الخطاب المادي/الثقافي في مدرسة بغداد الفلسفية : دراسة ابستمولوجية في منهجية الفيلسوف الراحل حسام الآلوسي (القسم الثاني) ـ حيدر علي سلامة*
- مفهوم الأيديولوجيا :من نظرية الأنعكاس المادية إلى نظرية الايديولوجيا بوصفها خطاب لساني لغوي
كان لسيطرة النظريات الحتمية كالمادوية والأقتصادوية في الماركسية التقليدية، بشكل تكاملي على مجمل مفاصل "انطولوجيا الحياة الأجتماعية للوعي والفرد". الاثر الكبير على انكفاء تلك الأنطولوجيا على بنيتها وانفصالها عما يوجد في عالم البنية الفوقية. لذا، لا نجد أي "اثر تواصلي واتصالي وتفاعلي" بينهما، سواء كان يمثل ذلك قنوات لغوية او نظام علامات لسانية او حتى سياق ثقافي. فيغدو هنا، "تشكيل الوعي" منفصلا ومستقلا تماما عن أي نظام "سيميو-ايديولوجي-لغوي/الايديولوجيا=العلامة (signe)/والعلامة=الايديولوجيا" - بحسب كل من: باختين وفولوشينوف -. فوفقا "لنظرية الأنعكاس المادية": ((.. ((الذهن)) أو ((العقل)) البشري ليس مستقلا عن الظروف الموضوعية التي تفرض نفسها عليه ودون أن يدري منها شيئا. ليست ارادة الناس هي التي تحدد بصورة اعتباطية العلاقات الأجتماعية، بل أن وعي الناس يحدده واقع المجتمع المادي الذي هم اعضاء فيه، وهذا المجتمع ليس نتيجة لا شيء، أنه مجموعة العلاقات التي تكونت لتؤمن للناس نضالا ينتصر على الطبيعة، وهي علاقات يحددها بالضرورة مستوى قوى الأنتاج التي يملكها الناس. وافكار الناس الأجتماعية هي انعكاس لهذا المجموع المعقد....ان حياة المجتمع المادية هي واقع موضوعي يستقل في وجوده عن ارادة الأنسان، بينما حياة المجتمع الفوقية او الفكرية هي انعكاس لهذا الواقع الموضوعي))(14).
في جدوى الفلسفة ـ حسن أوزال
“الويل للمفكر الذي بدل أن يغدو بستاني نباتاته، بقي مجرد تربة لها” نتشه
لعل ما يشهده حقلنا الفكري والفلسفي اليوم، من حركة غريبة في مجال النشر، تتمثل في صدور سلسلة من الكتب، بين الفينة والأخرى، بعناوين تلفت النظر من قبيل :“فقه الفلسفة” أو “بلاغة الفلسفة”؛ هو ما اضطرنا إلى استعادة سؤال التفلسف وما تكونه الفلسفة؟ بل وما جدوى الفلسفة ؟إذ، كيف يمكننا، والحالة هاته أن نقبل بكل ارتياح المزاوجة مابين الفلسفة و الفقه حينا،و البلاغة أحيانا أخرى؟ وهل يمكن للفلسفة أن تضحى فقها وأن تكون بلاغة؟ هل بوسع الفكر أن ينقلب إلى خطاب محض لغوي، يتأرجح ما بين الفقه والبلاغة دونما صلة بالواقع، ولا بالعالم المحسوس الذي هو منبث المفاهيم الفلسفية ؟وهل بوسع المفاهيم أن تمكث في غياهب المجرد وتندرج في ثنايا القواميس اللغوية المثالية، أم أنها بالأحرى ذات علاقة وطيدة بالواقع و لها صلة متينة بالفيلسوف وإكراهات معيشه؟ صحيح“ أن الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم”(1) لكن المفاهيم مشروطة بعالم محسوس وتفترض لغة واقعية وعالما ممكنا يمنحها الصلابة و قوة التحقق .
من ثمة يستعصي بنظرنا الربط ما بين الفلسفة والفقه أو البلاغة لا لشيء إلا لأن منطق الفقه و البلاغة منطق أبعد مايكون عن منطق الفلسفة . ذلك أن الفلسفة كما أكد كبار الفلاسفة إبداع و خلق للمفاهيم التي هي منغرسة في التاريخ أما الفقه أو البلاغة فمجرد صراعات بزنطية لا صلة لها بالإبداع و لا علاقة لها بالفن، أكثر مما لها صلة بالأحكام الشرعية و مقتضيات الأمر و النهي.
جدل الخطاب المادي/الثقافي في مدرسة بغداد الفلسفية : دراسة ابستمولوجية في منهجية الفيلسوف الراحل حسام الآلوسي* (القسم الاول) ـ حيدر علي سلامة**
تمثل عملية الكتابة عن أستاذنا الكبير الراحل الدكتور حسام الآلوسي، مغامرة كبيرة في حد ذاتها، أن لم تكن مجازفة فلسفية. ربما يعود ذلك إلى طبيعة التحولات الحاصلة في فلسفته عامة، وخطابه المادي التاريخي خاصة. فعلى مدار تاريخه الفلسفي والمهني والجامعي، لم يحدث وان فصل أ. الآلوسي بين انشغالاته الثقافية الموزعة بين متابعة ونقد المشاريع الموسوعية الكبرى في الفكر العربي سواء كانت في اتجاهاتها الماركسية او في تمثلاتها الفلسفية الأخرى، وبين عمله كأستاذ للفلسفة ومناهجها، التي طالما عمل على الأرتقاء بها وإعادة تأسيسها بما ينسجم والتعليم الفلسفي النقدي الذي يضمن اكبر مساحة ممكنة من الإبداع الفلسفي الحر لمتلقي الدرس الفلسفي. ولهذا، تميزت عملية تدريس النص الفلسفي عند استاذنا الآلوسي، بالانفتاح الأنساني والأخلاقي والأبداعي، بطريقة قلما شهدنا لها مثيلا في تاريخ خطابنا الفلسفي.
لهذا، ينبغي علينا، كباحثين مختصين في الخطاب الفلسفي وإشكالاته الثقافية/والتاريخية، أن لا نتوقف عند "منطق النحيب وفلسفة التأبين" لفيلسوفنا الراحل، واستذكار تاريخ علاقاته المهنية مع تلاميذه ومحبيه ومريديه فحسب. لان الآلوسي كان ولا يزال، اسمى واكبر من جميع تلك "التكاليف الشكلية"، التي اُسقِطت عنه، انطلاقا من مبدأ "أن تكريم فلاسفتنا لا يكمن في منطق الذكر الملهوت"، وانما يقع ضمن منطق نقد منجزهم الفلسفي الكبير والمتشعب وإعادة قراءته وتأويله من جديد. فهذا ما سيمنحهم اكسير البقاء والأستمرار في العطاء الفلسفي حتى بعد رحيلهم عنا.