فلسفـة و تربية

كانت الأسئلة ولا تزال مفاتيح لتبديد حيرة الإنسان إزاء ذاته والموجودات من حوله. كلما استوقفه غموض أو غرابة، إلا وتوسل بتلك العملية الفطرية التي حقق بفضلها قفزات علمية وحضارية هائلة. بل ليس من المبالغة القول بأن أي حدث تاريخي أو علمي أو حتى مأساوي لم يخلُ من سؤال أو أسئلة سبقته، وحفزت البشرية للبحث عن أجوبة.

نتساءل عن كل شيء في حياتنا اليومية، لكن تكمن المشكلة في عدم امتلاكنا المسبق لصيغة تحدد الأسئلة التي يجب طرحها، وتلك التي ينبغي تنحيتها. وحتى يكون السؤال في محله فالمرء بحاجة إلى ما يشبه الموهبة التي يمكن أن يتعلمها؛ كأن النجابة تتوقف على طرح السؤال الجيد الذي يتناسب مع السياق، أي مع البيئة العامة التي توفر للسائل والمتلقي فهما أفضل للتوقعات. لذا تضعنا كتب اللغة والأدب أمام آلاف الوضعيات التي تختبر مقدرتنا على تفكيك الغامض والمبهم والمدهش، بنحت مثير عقلي واضح، يتوقف عليه حدوث استجابة ملائمة، وذلك هو السؤال!

ضمن حكايات وأخبار متفرقة، يحيل ظاهرها على الطرفة والإمتاع، ينبه ابن الجوزي قارئ كتابه (أخبار الأذكياء) إلى ثلاثة أغراض ينشد تحقيقها وهي:

-  معرفة أقدارهم (الأذكياء) بذكر أحوالهم.

- تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة.

- تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من يعسر عليه لَحاقه.

وبين المعرفة والتلقيح والتأديب يتشكل فن السؤال باعتباره مرآة النجابة، ومظهرا أساسيا يكشف عن قوة الفطنة، وقوة جوهرية العقول:

" قال رجل لهشام بن عمرو القرَظي: كم تعُدّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم تعدّ من السن؟ قال: اثنتين وثلاثين سِنّة، ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم لك من السنين؟ قال: مالي منها شيء، كلها لله عز وجل، قال: فما سنك؟ قال: عظم، قال: فابنُ كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أب وأم، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليّ شيء لقتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟".

تفتح الأسئلة إذن خيارات التعلم للانتقال بالفرد من وضع التلقي السلبي إلى وضع التعلم النشط والحيوي والمتكامل. لا غرو إذن أن تشكل الأسئلة جوهر العملية التعليمية في فضائنا المدرسي، إذ لا يتصور في الأذهان تدريس خال من طرح الأسئلة، خاصة في ظل المقاربات الحديثة التي تبدي وعيا أكبر بضرورة التمحور حول المتعلم وتلبية احتياجاته.

إن كتاب جان جاك روسو، الذي ولد في 28 يونيو 1712 في جنيف وتوفي في 2 يوليو 1778 في إرمينونفيل، "إميل" أو "في التعليم" هو عبارة عن نصف أطروحة ونصف رواية تحكي قصة حياة رجل خيالي يدعى إميل. في هذا الكتاب، يتتبع روسو مسار تطور إميل والتعليم الذي تلقاه، وهو تعليم مصمم ليخلق فيه كل فضائل "الشخص الطبيعي" المثالي لروسو، والذي لم يفسده المجتمع الحديث. وفقًا لروسو، لا يمكن رعاية الخير الطبيعي للإنسان والحفاظ عليه إلا وفقًا لهذا النموذج التوجيهي للغاية للتعليم، ويذكر روسو أن هدفه في إميل هو تحديد الخطوط العريضة لهذا النموذج - وهو نموذج يختلف بشكل حاد عن جميع الأشكال المقبولة من التعليم. يقترح نظام روسو التعليمي تفاصيل طرق تدريس محددة لكل مرحلة من مراحل الحياة، وطريقة تعليمية تتوافق مع الخصائص الخاصة لتلك المرحلة من التطور البشري. وبناء على ذلك، تم تقسيم إميل إلى خمسة كتب، كل منها يتوافق مع مرحلة من مراحل النمو. يصف الكتابان الأول والثاني عصر الطبيعة حتى سن الثانية عشرة؛ يصف الكتابان الثالث والرابع المراحل الانتقالية للمراهقة؛ ويصف الكتاب الخامس عصر الحكمة، الذي يتوافق تقريبًا مع الأعمار من عشرين إلى خمسة وعشرين عامًا. يدعي روسو أن هذه المرحلة يتبعها عصر السعادة، وهي المرحلة الأخيرة من التطور، والتي لم يتناولها في إميل. في الكتابين الأول والثاني، يصر روسو على أن الأطفال الصغار في عصر الطبيعة يجب أن يركزوا على الجانب الجسدي لتعليمهم. مثل الحيوانات الصغيرة، يجب تحريرهم من القماط الضيق، وإرضاعهم من أمهاتهم، والسماح لهم باللعب في الخارج، وبالتالي تنمية الحواس الجسدية التي ستكون أهم الأدوات في اكتسابهم للمعرفة. لاحقًا، عندما يقتربون من سن البلوغ، يجب تعليمهم حرفة يدوية، مثل النجارة، والسماح لهم بالتطور فيها، مما يزيد من قدراتهم البدنية والتنسيق بين اليد والعقل. ويواصل روسو القول إنه عندما يدخل إميل سنوات مراهقته، عليه أن يبدأ التعليم الرسمي. ومع ذلك، فإن التعليم الذي يقترحه روسو يتضمن العمل فقط مع مدرس خاص ودراسة وقراءة فقط ما يثير فضوله، فقط ما هو "مفيد" أو "ممتع". يوضح روسو أنه بهذه الطريقة سوف يقوم إميل بتثقيف نفسه بشكل أساسي وسيكون متحمسًا للتعلم. سوف يغذي حبه لكل الأشياء الجميلة ويتعلم ألا يقمع انجذابه الطبيعي نحوها. يقول روسو أن فترة المراهقة المبكرة هي أفضل وقت لبدء مثل هذه الدراسة، لأنه بعد البلوغ يكتمل نمو الشاب جسديًا ولكنه لا يزال غير فاسد بسبب عواطف السنوات اللاحقة. إنه قادر على تطوير قدراته العقلية، تحت إشراف معلم يحرص على ملاحظة الخصائص الشخصية لطالبه ويقترح المواد الدراسية وفقًا لطبيعته الفردية.

" الحكايات تُحَف الجنة." مالك بن دينار
مثلما يقف الشعب باعتزاز على الأرض التي حررها بدماء أسلافه وبطولاتهم، فإنه يستلهم كيانه وهويته، ومُثُله وقيمه من ثقافته الشعبية التي تشكلت على مدار أزمان غابرة، لتصبح ذخيرته الحية، وعملته الحقيقية المتداولة في حاضره وغده.
ولأن الحكاية الشعبية جزء أصيل من تلك الثقافة، ووسيلة كل شعب لحفظ ذاكرته وخياله المشترك، فإنها لقيت عناية كبيرة لما تعكسه من تجارب حياتية، وأحلام ومخاوف، وآمال تلتمس التعويض في عالم مثالي. كذلك كانت الحكاية الشعبية حتى وقت قريب، قبل أن تداهمها التكنولوجيا بترسانة هائلة من وسائل الترفيه والتسلية، وتنزع عن الجدّات ثياب الحكواتي!
إن وظيفة حفظ التاريخ والذاكرة لا تمنع الحكاية الشعبية من أن تظل إنتاجا حيا ومتواصلا، ينسج من خلالها العقل البشري عالما مثاليا يطمح لتجسيده في واقعه، ويستدرك من خلاله نقائص المجتمع وخطاياه. تلك الاستمرارية رهينة إلى حد كبير باستثمارها كمدخل بيداغوجي، واعتمادها أداة ناجعة للتعلم، وتمرير القيم الأخلاقية، وتأسيس جمالية الحكي داخل فضاء تعلمي تفاعلي.
لهذا الفن القديم خصائصه ومرتكزاته التي تميزه عن سائر الأجناس الأدبية؛ حيث تتمتع الحكاية الشعبية ببساطة البناء والأسلوب، وبلغة خاصة ومتميزة تحقق الإيحاء والإثارة الفنية المطلوبة. للحبكة فيها دلائل نفسية وقيمية يصل دويها إلى أعماق المستمع. متحررة من خصوصيات الزمان والمكان والشخوص، مما أتاح لبنائها وتركيبها أن يكتسب سمات العالمية. هكذا تنقلت حكاية "سندريلا" من خلال ثلاثمئة وخمسة وأربعين نصا مختلفا، عبر رقعة تمتد بين روسيا وإيرلندا، فهي في إيطاليا "سينيرنتولا"، وفي فرنسا" سندريلون"، وفي ألمانيا" اشينبويل"، وفي المجر "بوبلوث"، وفي روسيا" جيرنوشكا"، بينما يرقى تاريخها في الصين إلى ما قبل سنة 800 ميلادية تحت اسم" يه هسين"، قبل أن تأخذ في الشرق لقب "ست الحسن".
تقوم الحكاية الشعبية على سرد مباشر يروم الإقناع والتأثير، ويتخذ من المغامرات الخيالية والأحداث الغريبة موضوعا له. وقد تكون الأحداث حقيقية، غير أنها مُزجت بآمال الناس وأحلامهم وخلاصات تجاربهم، فحررتها من صلتها المباشرة بالواقع لتعتمد على الخوارق والعجائب، وتضفي على الطبيعة الإنسانية المتشابهة في كل مكان وزمان، أزياء محلية متنوعة. ولذلك التشابه العالمي تفسيراته، من بينها الترجمة، والنشاط التجاري بين البلدان، بالإضافة إلى تحركات الجموع البشرية الموسومة بالهجرة.

مقدمة :
يعتبر كارل يونغ (1875 - 1961) مؤسس علم النفس التحليلي و واحدا من أهم رواد مجاله. أسس ما يسمى اليوم ب "علم النفس اليونغي" و الذي يختلف عن غيره من فروع  علم النفس بعدة مميزات، من ضمنها بعض المفاهيم الجديدة التي صاغها و عرفها من خلال كتبه، إضافة إلى نظرياته التي باتت جزءا لا يتجزأ من الأدبيات العلمية المتعلقة بعلم النفس.

يركز علم النفسي اليونغي على الطفولة كونها فترة جد مهمة للنمو النفسي لدى الفرد، إذ أنها الفترة التي تتشكل فيها الأنماط الأولية و يكتشف الطفل ذاته ويبني تكامله النفسي و العاطفي خلالها. و في نفس السياق، فإن أدب الأطفال شكل من أشكال الفنون التي تقوي اتصال الفرد بالعالم حوله و تصقل إنسانيته و حسه الفني لتجعل منه كائنا حساسا ينتمي إلى مدرسة الرومانسية و تعلمه كيفية التواصل مع أحاسيسه الأكثر تعقيدا. فكيف يؤثر أدب الأطفال في نموهم السيكولوجي و كيف له أن يساهم في تكوين شخصيتهم؟

أدب الأطفال كوسيلة للتربية و التعليم :

         إلى جانب سبل التعليم التقليدية التي تعتمدها معظم المدارس الحكومية في العالم، شهد المجال التربوي ظهور أساليب جديدة تهدف إلى جعل عملية التعلم أكثر متعة بالنسبة للطفل. من بين هذه الأساليب نجد القصة المصورة التي تمكن المعلم من تحقيق أهداف دراسية عديدة من خلال نشاط واحد، إذ أن القصة المصورة تساعد الطفل على تعلم القراءة والتعود عليها، و تلقنه الأخلاق و القيم الحسنة، كما تمده بالمعرفة الثقافية و العلمية.

من الطبيعي جدا أن يجد الطفل ذاته من خلال التعرف عليها في شخصيات خيالية معينة و أن يتعاطف معها و مع قضاياها؛ هذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرة الطفل على رصد الأنماط الأولية (Archetypes) التي تحتوي عليها معظم الكتب و الروايات، سواء أ كانت للصغار أم للبالغين. تعتبر هاته الأنماط الأولية لدى كارل يونغ إمكانات فطرية يتم التعبير عنها في السلوك والتجارب البشرية و تعززها التجارب الفردية والثقافية[1]. انطلاقا من ملاحظة هذه الأنماط و رصدها من خلال التفاعلات الاجتماعية التي تحدث خلال فترة الطفولة، يتمكن الطفل من بناء نظرة أولية على المجتمع و فهم مكامن النفس البشرية المعقدة بطبيعتها. إضافة إلى الملاحظة التي تعد أداة من أدوات التعلم، فإن القراءة وما تقدمه من رصيد معرفي للأطفال كما للبالغين تغنيهم علما و اطلاعا على اﻷنماط اليونغية التي تؤطر تفاعلاتهم الاجتماعية خلال حياتهم البالغة. يعد أدب الأطفال بمثابة وسيلة لدمقرطة القيم و الروح الأخلاقية، وذلك بفضل العنصر القيمي الذي يزخر به هذا الصنف الأدبي، إذ يقدم الكاتب عادة شخصيات خيالية عديدة منها الخَيِّرُ و منها الشرير، كما ينشر من خلال اللغة و جماليتها حب الجمال و تفضيله، و يقدم دروسا حياتية للقارئ عبر حبكة أدبية مميزة من شأنها أن تنمي الحس الإبداعي لدى الطفل. ثم إن تشجيع الأطفال على القراءة يدفعهم إلى التعود على هذا النشاط التعلمي، مما يجعل مسارهم الدراسي حافلا بالنجاح و التميز الأكاديمي، و يغرس حس الفضول وحب المعرفة فيهم منذ الطفولة ليعودهم على ما فيه نفع لهم.  

قبل أن يوجد المخرج كانت النصوص المسرحية تحمل في طياتها إرشادات وتوجيهات، تحدد شكل العرض وصياغته المشهدية. وبتتبع تاريخ العرض المسرحي في كل الحضارات، أمكن رصد التشكلات الأولى لدور المخرج باعتباره مسؤولا عن الولادة الثانية للنص، من خلال تنظيم مكوناته من أداء، وديكور، وموسيقى، وأضواء.

في القرون الوسطى كان ترتيب المناظر والحيل المسرحية، كما يصفها أرسطو في كتابه (فن الشعر) يقع على عاتق مدير اللعبة Meneur de jeu، وهي المهمة التي قد يتولاها الممثل الأول في الفرقة أو حتى مصمم الديكور. لكن في نهاية القرن التاسع عشر سيترافق ظهور الإخراج، كمكون أساسي في العملية المسرحية، مع ميلاد السينما، والتغيير الهائل الذي أحدثته في تركيبة الجمهور وأذواقه. وسعى منذ ظهوره إلى التجريب والبحث عن صيغ وجماليات متنوعة. لكنه خلال رحلته المديدة التي يُرجعها العلماء إلى زمن الفراعنة، لم يلتفت لجمهور الصغار إلا قبل مئة عام أو يزيد قليلا.

من المعلوم أن مسرح الطفل نشأ في سياق البحث عن طرائق تربوية جديدة لتربية وإرشاد الأطفال. وبفضل المنجز الذي حققته الأبحاث في ميادين علم النفس، برزت سمات وخصائص نمائية لمرحلة الطفولة، شجعت على توظيف المحاكاة الفطرية التي يتمتع بها الطفل منذ سنواته الأولى، ضمن إطارها الفني، عبر ثلاث محاور: التمثيل للطفل، والتمثيل مع الطفل، ثم الطفل يمثل بمفرده. هكذا نشأت بوادر الكتابة المسرحية للطفل، وتقريب مكونات العرض المسرحي من عالم الطفولة الفريد، ومن بينها الإخراج بطبيعة الحال.

إن تطوير الذوق الفني والجمالي للطفل، وبناء ثقته بنفسه، وتغيير توجهاته الفكرية والثقافية والاجتماعية لهي أهداف يلتئم حولها كاتب النص ومخرجه. بمعنى أن العرض المسرحي الذي يؤديه الطفل ويشاهده، ليس فقط وسيلة تربوية لغرس القيم، وتوجيه السلوك وجهة محمودة، وإنما هو أيضا اندماج مع عالم مواز لحياته اليومية؛ أعني عالم المسرح بتقنياته المختلفة، من اكسسوار وماكياج وإضاءة ومؤثرات صوتية. وهو الاندماج الذي يحتم العناية بالعملية الإخراجية، والتعرف على أسسها وقواعدها التي تسهم في إعداد الممثل الصغير.

يلج الطفل عالم المسرح متوسلا بميله الفطري إلى المحاكاة. تلك المهارة المتجذرة في طبيعته الإنسانية والتي تعتمد على الصوت والجسد في تقليد الآخرين، واكتساب المعارف الأولية، بالإضافة إلى التأثر بما يجري في محيطه. وهي في الوقت نفسه إحدى خواص الفن المسرحي، متى أحسن المدرس أو المنشط تحفيز أداء الطفل، وإعداده لتجربة متنوعة تعتمد الاستخدام الكامل لإمكاناته.

ليس الهدف بالضرورة خلق ممثل محترف، إذ يؤمن الطفل في النهاية بأن الأداء المسرحي هو لعبة للتنفيس عن توتره، وتنظيم انفعالاته، ومعالجة بعض مشاكله النفسية كالخجل وعيوب النطق. لكن ما الذي يمنع من الارتقاء بما يجري داخل الفصل الدراسي، أو في دور الشباب ومراكز الطفولة، إلى ممارسة واعية وممتدة، تتحرر من البساطة والتلقائية المعهودة لتربية الممثل الصغير؟

قدم المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي منهجا وطريقة في تدريب الممثل، تهتم بتفجير ملكات المخيلة والإبداع. وهو يؤمن بأن الممثل الذي يستشعر الموقف الوهمي، لن يجد صعوبة في التجسيد وإظهار العواطف والانفعالات الملائمة. وتعتمد طريقته على استرخاء الجسم والصوت، وتركيز الانتباه، وتحفيز الخيال دون فرض قواعد أو نماذج مسبقة.

يرتكز إذن تدريب الممثل وفق أسلوب ستانيسلافسكي على:

  • الاسترخاء: وذلك من خلال تمارين يتم تنفيذها مع كل جزء من أجزاء الجسم على حدة، وتهدف لتقليل التوتر، والسيطرة التامة على الصوت والجسد. ويمكن تشبيه الاسترخاء هنا بعملية ضبط الآلة الموسيقية قبل العزف.
  • التركيز: ويتضمن اختيار الممثل لموضوع أو مشكلة محددة للتدرب عليها. ويخدم التركيز هنا عدة جوانب من بينها: عزل الممثل عن التشويش الخارجي، وتحرير العقل ليتمكن من خلق المشهد المتخيل، ثم العيش في الجو التمثيلي كأنه حقيقة واقعية" مثلا التدريب على حمل كوب من الشاي، حيث يستعين الطفل بكوب حقيقي، ثم يحاول أن يستعيد تلك الخبرة مع كوب خيالي، مستحضرا وزنه وملمسه والسخونة التي يسببها".

تبدأ علاقة الطفل بالقصة والحكاية مستمعا ثم قارئا؛ لكن المسرح بإمكاناته الهائلة ينقله إلى عالم جديد قوامه التمثيل والفرجة، والمزج بين التعبيرات المتعددة على الخشبة. وهو انتقال يتطلب بالأساس اهتماما بالسمات النفسية التي تُمهّد لعلاقته بالمسرح؛ حيث إن الطفل يولد فنانا، يقول بابلو بيكاسو، لكن المشكل هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما يكبر.

غير خفي إذن أن مسرح الطفل تتحكم في إنتاجه اعتبارات تربوية وفنية، متسقة بطبيعة الحال مع النمو النفسي والإدراكي والمعرفي للطفل. وهذا يعني أن إعداد عمل مسرحي ينطلق من استيعاب للخصائص السيكولوجية للطفل والمراهق؛ لأن عدم الاهتمام يؤدي في النهاية إلى تقديم عروض مسرحية ضعيفة أو مربكة لقدراته الذهنية. وبالنظر إلى عدد السنوات التي يقضيها الطفل في حضن المدرسة الابتدائية، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين:

  • مرحلة الخيال الحر والمطلق، حيث يتطلع الطفل في الفترة ما بين 6 إلى 9 سنوات إلى عوالم خيالية، تستوعب رغبته في المتعة والانطلاق خارج حدود واقعه اليومي. لذا يُظهر ميلا شديدا لقصص الحوريات والعمالقة والأقزام، وللحكايات المستلهمة من التراث الشعبي.
  • مرحلة البطولة والمغامرة والخيال الواقعي، وهي الممتدة إلى سن 12 سنة، حيث يبدأ تحرر الطفل تدريجيا من عالم الخيال، ليصير تفكيره أكثر نضجا واستعدادا لإظهار الشجاعة والمسؤولية. وخلال هذه المرحلة تستهويه قصص المغامرة التي تعتمد التفكير والتوقع، وتجعل من شخصية البطل قالبا ملائما لتمرير القيم والمواقف، وتأكيد ارتباطه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المختلفة.

تحدد تلك الخصائص وجهة المدرس أو المنشط في اختيار النص المسرحي الذي يتناسب مع إدراك الطفل واحتياجاته. نص ينبغي أن يتحقق فيه قدر من التبسيط، ووضوح العلاقات بين شخصياته، وبناء درامي تتنامى داخله الأحداث بشكل تسلسلي لا يعتمد القفزات المفاجئة.

بالنظر إلى الصعوبات التي تكتنف الكتابة المسرحية للطفل في العالم العربي، فإن المدرس أو المنشط يجد نفسه أمام خيارين: إما إيجاد نص ملائم، أو بذل جهد إضافي يتمثل في مسرحة نص أدبي " قصة، حكاية، شعر..." مع متطلبات البناء المسرحي. وفي كلتا الحالتين لابد من مراعاة بعض القواعد التي تجعل النص ملائما لنفسية الطفل وقدراته.

تشير البيداغوجيا التلقينية إلى تربية وتلقين المتعلمين مجموعة من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات في سياق ضبطهم إياها، حيث تجعل من ضبط محتوى ومضامين المعرفة الغاية الأسمى من كل تعليم، حيث يركز الأستاذ المدرس على الجانب/البعد المعرفي في المتعلم ويقصي الجوانب الأخرى، ومن هنا تنطلق البيداغوجيا التلقينية أو كما عرفت في الأدبيات التربوية ببيداغوجيا المضامين أو المحتوى، وهي بالمناسبة بيداغوجيا تقليدية تلقينية، لأنها تنطلق من مسلمة/فرضية أساسية وهي أن عقل التلميذ صفحة بيضاء ومن ثم وجب ملؤه وشحذه بكمية من المعارف والعلوم الجاهزة، بدون مراعاة لتمثلاته الشخصية التي يكتسيها من المحيط الإجتماعي الذي يندرج منه، ومن ثم فهي تؤكد على قيمة وأهمية التلقين على حساب الإبداع، وذلك من خلال محاكاة المتعلم لسلطة النموذج السلوكي والتشبع بالعديد من القيم والمعايير والسنن والأعراف السائدة، بدون فحصها وتمحيصها لهذا يتم نعتها بالمقاربة التلقينية.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أنه توجد العديد من الممارسات المهنية لبعض المدرسين -في جميع المواد التعليمية- لازالت تركز لنا على الجانب المعرفي والفكري للمتعلم، ويتم التركيز بالخصوص على المضامين والمحتويات المعرفية، وكأن رهان تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي هو شحذ ذهن المتعلم بمنظومة من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات الفلسفية -التي أصبحت متجاوزة وتعرضت للكثير من النقود- فيركز الأستاذ /المدرس على سيرورتي إفهام تصور الفيلسوف وتذكير المتعلمين بحفظه وضبطه جيداً، من أجل استرجاعه أثناء المراقبة المستمرة أو الامتحان النهائي، وهكذا يتم ضمان نقطة كاملة في مادة الفلسفة وغيرها من المواد.

ما نلحظه هنا هو أن ما يميز المقاربة التلقينية هو أنها مقاربة تقليدية تركز على أسلوبي التلقين والاجترار والتكرار والاسترجاع، كما تركز على ملكة الذاكرة، بدل ملكة الفهم والإدراك والعقل، كما أن ما يميزها هو رفضها لكل إبداع وخلق وابتكار وتجديد وبحث ...

فماذا سننتظر من مادة الفلسفة في ضوء هذه البيداغوجيا التلقينية؟ سوى أن تتحول هذه المادة الفكرية والنقدية والإبداعية والتساؤلية إلى منظومة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات الفلسفية الغارقة في التجريد والغموض، والتي يكررها المتعلمون كالببغاوات، فتجدهم يكررون قولة أو كوجيطو رونيه ديكارت الشهير:  "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، دون إدراك عمقها الفكري والفلسفي، بل وكيف أسست للفلسفة الحديثة، وركن الحداثة، وأن هذه المقولة ما هي سوى صَدَى وَرَدُّ فِعْلٍ للثّوْرَةِ الكُوبِّيرْنِيكِيّةِ الشهيرة لسنة 1543م.

وما يهمنا هنا في حقيقة الأمر هو سعي الأستاذ /المدرس الحثيث إلى تلقين المتعلمين المنظومة المعرفية المثقلة التي تنتمي لتاريخ الفلسفة الضخم، وهي معارف ترنسندنتالية بمعناها المتعالي والعاجي، لم يساهم المتعلم في تكوينها وتكونها نتيجة هذه البيداغوجيا التي تعتمد التلقين.

هكذا يعتمد تعريف التلقين على تلك العقيدة المرتبطة به، أو المذهب الذي يتمّ تعليمه. لهذا تهدف البيداغوجيا الحقيقية إلى تكوين أفراد مسؤولين وواعين يفكرون بأنفسهم لأنفسهم مهما حدث ويحترمون الآخرين. بالنسبة إلى أوليفيي روبول، " فإن أي تعليم ينحرف عن هذه الأهداف هو "تعليم مضاد". ويضيف أن المدرس يواجه دائمًا خطر التأثير على طلابه إما لأنه ينخرط في الدعاية أو، على العكس من ذلك، لأنه يُشْعِرُهُمْ بالمَلَلِ من تَعْلِيمِهِم. " [1].

ولهذا نلحظ العديد من المتعلمين الذين يخلق لديهم هذا الأسلوب التلقيني العقيم في التدريس، الملل والرتابة والضَّجَرِ، لهذا تجدهم يعبرون عن تذمرهم وسوء فهمهم للمعارف الفلسفية بل وكيفية تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع.

الدرجات الفخرية هي الاعتراف المرموق في التعليم العالي، مخصصة للأفراد البارزين ذوي السمعة الوطنية أو الدولية. عادةً ما يكون المتلقون هم كبار العلماء والمكتشفين والمخترعين والمؤلفين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين والقادة في السياسة أو الحكومة. في بعض الأحيان، يتم منح الدرجات الفخرية للأشخاص الذين قدموا خدمة مدى الحياة للجامعة من خلال عضوية مجلس الإدارة، أو العمل التطوعي، أو المساهمات المالية الكبيرة. وهي معروفة أيضاً بالعبارات اللاتينية Honoris Causa الدرجة عادة ما تكون درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير بصورة أقل شيوعاً.

إذن الدكتوراه الفخرية هي درجة اسمية تكريمية وتشريفية، وليست مرتبة علمية أو أكاديمية، ولا تحمل معها أي مؤهل أكاديمي رسمي. على هذا النحو، من المتوقع دائماً أن يتم إدراج هذه الدرجات العلمية في السيرة الذاتية للفرد كجائزة، وليس في قسم التعليم. وفيما يتعلق باستخدام هذا اللقب التشريفي، فإن سياسات مؤسسات التعليم العالي تطلب بشكل عام من الحاصلين عليه "الامتناع عن اعتماد اللقب المضلل" وأن الحاصل على الدكتوراه الفخرية يجب أن يقيد استخدام لقب "الدكتور" قبل اسمهم حصراً مع مؤسسة التعليم العالي المعنية وليس خارجها.

تسلط شهادات الدكتوراه الفخرية الضوء على أسئلة غير مريحة، ولكنها مهمة حول غرض الجامعة ودورها في تعزيز البحث العلمي، وفي المجتمع الأوسع. اتُهمت بعض الجامعات والكليات بمنح درجات فخرية مقابل تبرعات كبيرة. يتعرض الحاصلون على الدرجة الفخرية، وخاصة أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات أكاديمية سابقة، للانتقاد في بعض الأحيان إذا أصروا على أن يطلق عليهم لقب "دكتور" نتيجة لمنحتهم، لأن التكريم قد يضلل عامة الناس بشأن مؤهلاتهم.

الأصل التاريخي

تعود هذه الممارسة إلى العصور الوسطى، عندما يتم إقناع الجامعة، لأسباب مختلفة ـ أو تراها الجامعة مناسبة ـ بمنح الإعفاء من بعض أو كل المتطلبات القانونية المعتادة لمنح الدرجة العلمية.

لقد تم استخدام الدكتوراه الفخرية منذ فترة طويلة لتعزيز العلاقات المفيدة مع الأفراد أو البلدان أو المنظمات. منحت جامعة أكسفورد أول دكتوراه فخرية مسجلة في حوالي عام 1478 إلى "ليونيل وودفيل" Lionel Woodville صهر ملك إنجلترا "إدوارد الرابع"  Edward IV في محاولة واضحة "للحصول على تأييد رجل يتمتع بنفوذ كبير، وأصبح فيما بعد أسقف "سالزبوري" Salisbury.

في أواخر القرن السادس عشر، أصبح منح الدرجات الفخرية أمراً شائعاً جداً، خاصة بمناسبة الزيارات الملكية إلى أكسفورد أو كامبريدج. في زيارة "جيمس الأول" James I إلى أكسفورد عام 1605، على سبيل المثال، حصل ثلاثة وأربعون عضواً من حاشيته (خمسة عشر منهم من الإيرل earls أو البارونات barons ) على درجة الماجستير في الآداب، وينص سجل الدعوة صراحة على أن هذه كانت درجات كاملة تحمل الامتيازات المعتادة (مثل حقوق التصويت في الدعوة والتجمع).

لذلك يتم تعريف مفهوم الوعي من خلال تعارضين: من ناحية، تعارض الوعي والمتعارض مع (ob-jet) في مقابل الذات (في الألمانية Gegenstand تعني حرفيا ما يتعارض مع، ويحوله المترجمون إلى "ob-jet" وهم يحتفظون ب "objet" لكلمة ألمانية أخرى:Objekt)؛ تعارض المعرفة والحقيقة من ناحية أخرى. كل تعارض من هذه التعارضين يعطي لمفهوم الوعي معنى مختلفا. يكون له معنى ذاتي عندما يشير إلى نشاط معين للعقل، النشاط الذي من خلاله تميز الذات معرفتها عن الأشياء التي تتعلق بها: وهذا ما يمكن أن نسميه، في اللغة الهوسرلية، النشاط "الإدراكي النيوماتيكي" للوعي، الترابط بين الفعل الفكري "القصدي" والموضوع المقصود. لكن يجب أن يفهم الوعي أيضا بالمعنى الإبستيمولوجي، بموجبه يكون فهما عفويا من قبل العقل لما يشكل حقيقة تمثلاته، أو معرفته. وفقا لهذا التصور للحقيقة، تُعتبر الأشياء الخارجية مستقلة في حد ذاتها عن المعرفة، وهي في ذاتها يجب أن تتوافق معها المعرفة حتى تكون صحيحة. نصادف المفهوم التقليدي عن الحقيقة باعتبارها "توافق" المعرفة مع موضوعها. لماذا ننسب هذا التصور عن الحقيقة إلى الوعي؟ لأنها تُخضع معرفتها تلقائيا لمثل هذا الطلب على الحقيقة، والاهتمام بالدقة ( Richtigkeit ) في الاصطلاح الهيجلي.
يتم إذن تعريف مفهوم "الوعي" من خلال ثنائية مزدوجة: تنضاف إلى ثنائية الوعي وموضوعه ثنائية المعرفة والحقيقة. فقط الثنائية الثانية، ذات الطبيعة الإبستيمولوجية، هي موضوع النقد الذي تطور عبر "الفينومينولوجيا" وأدى إلى النتيجة التي صيغت في فصل “المعرفة المطلقة”: إنما في عرض المعرفة على شكل مفهوم، وليس في ما وراء المعرفة، ينبغي البحث عما يشكل أعلى درجة من حقيقة المعرفة (الدقة هي فقط أدنى درجة من الحقيقة). في مرحلة المعرفة المطلقة، سيتم القضاء على التعارضات المكونة للوعي، بين المعرفة والموضوع، المعرفة والحقيقة، الوجود-من-أجل-الوعي والوجود في ذاته. سوف يفسح الوعي المجال للعلم، للمفهوم الذي يُفهم على أنه وحدة الفكر والوجود:
"إذا كانت كل لحظة، في فينومينولوجيا الروح، هي الاختلاف بين المعرفة والحقيقة، وكذلك الحركة التي يتم فيها إزالة هذا الاختلاف، في المقابل، لا يحتوي العلم على مثل هذا الاختلاف وإزالته، لكن، بما أن للحظة شكل المفهوم، فهي تجمع بين الشكل التعارضي (obj-ectivale) للحقيقة وشكل الذات التي تعرف في وحدة مباشرة" (890/432).
شكل الوعي

تمهيد
يتكون الفكر السياسي في نسخته الحديثة والمعاصرة من جملة من الفرضيات والمقدمات والتي يترتب عنها وفق المنهجية الفرضية الاستنتاجية مجموعة من الاستتباعات والقواعد ويمكن ذكر حالة الطبيعة والوضع الاصلي والحالة المدينة والعقد الاجتماعي وكذلك البديل الرأسمالي والبديل الاشتراكي ومحاولة تدارك الأخطاء الناتجة عن البديلين سواء في نسخة العدالة التوزيعية او الليبارتارية. فماهو النموذج السياسي الأكثر نجاعة في زمن التحولات والأزمات المالية والبيئية والطبية التي تعصف بالدول؟

نظرية العقد الاجتماعي

عندما تُبرم اتفاقيةً ذات أهمية، فإنك عادةً ما توافق على شروطٍ مُحددة: تُوقّع عقدًا. هذا لمصلحتك، ولمصلح الطرف الآخر: فتوقعات الجميع واضحة، وكذلك عواقب عدم الوفاء بها. العقود شائعة، وقد جادل بعض المفكرين المؤثرين في العصر الفلسفي "الحديث" بأن المجتمع بأسره يُنشأ ويُنظّم بموجب عقد. اثنان من أبرز "مُنظّري العقد الاجتماعي" هما توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704 .[نشرح في هذه المداخلة أصول هذا التقليد، ولماذا يُنير مفهوم العقد التفكير في بنية المجتمع والحكومة.

حالة الطبيعة والعقد الأول

لمعرفة سبب سعينا إلى عقد، تخيّل لو لم يكن هناك عقد، ولا اتفاق، على ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع: لا قواعد، ولا قوانين، ولا سلطات. هذا ما يُسمى "حالة الطبيعة". كيف ستكون الحياة في حالة الطبيعة؟ يعتقد معظم الناس أنها ستكون سيئة للغاية: ففي النهاية، لن يكون هناك مسؤولون لمعاقبة أي شخص أساء إلينا، مما يؤدي إلى عدم وجود رادع للسلوك السيئ: يبدو أن كل رجل وامرأة وطفل سيتحمل مسؤوليته بنفسه. وصف هوبز الحياة في حالة الطبيعة بأنها "منعزلة، فقيرة، بغيضة، وحشية، وقصيرة". يصفها لوك بأنها حيث يمكن للجميع أن يكونوا قضاة ومحلفين في نزاعاتهم الخاصة، مما يعني أنهم يستطيعون أن يقرروا شخصيًا متى ظُلِموا وكيف يعاقبون الجاني؛ من الواضح أن هذا قد يخرج عن السيطرة.

تاريخيًا، ربما لم نكن في حالة طبيعية قط، لكن منظري العقد يستخدمون هذه الفكرة لشرح سبب استحسان قواعد المجتمع، أي العقد. فهو يسمح لنا بالعيش بسلام مع ضمان أنه لا يمكن لأحد أن يؤذينا ببساطة أو يأخذ ممتلكاتنا دون عواقب. يجادل منظرو العقود بأن معظم الناس سيدخلون بحرية في عقود لتأمين هذه المنافع. مع ذلك، للعقد بعض التكاليف: فلكي يحصل الجميع على مزايا مجتمع منظم، يوافقون على التخلي عن بعض المنافع التي كانوا يتمتعون بها في حالة الطبيعة. يقول هوبز إنه يجب علينا التخلي عن "حق الطبيعة" أو القدرة على الحكم بأنفسنا على ما يُعتبر "حفاظًا على وجودنا". هذا يعني أنه بإمكاننا قتل شخص ما والادعاء بأنه ساهم في "حفظ وجودنا"، سواء صدقنا أم لا. ويجادل لوك بأنه يجب علينا التخلي عن حقنا في أن نكون قاضيًا ومحلفًا في نزاعاتنا. لنفترض، من أجل منفعة متبادلة، أن الناس تعاقدوا لتكوين مجتمع ما. ما هي تفاصيل هذا العقد؟

اتفاقية تشكيل الحكومة

يحتاج المجتمع حديث التكوين إلى آلية لاتخاذ القرارات: من سيضع القواعد وينفذها؟ لا بد من إرساء هذه السلطة إذا أُريد للمجتمع الجديد أن يعمل معًا بسلام. يجادل هوبز بأن سلطة اتخاذ القرار الوحيدة يجب أن تكون حاكمًا جبارًا، يُطلق عليه اسم "التنين"، يحكم بالقوة حتى يخشى المواطنون أي شيء يقوله الحاكم. وكما يُذكّر هوبز قراءه بنذير شؤم: "والعهود أو العقود، بدون سيف، ليست سوى كلمات، ولا قوة لها على الإطلاق لحماية الإنسان". يعني العقد أن تُطيع الحاكم وقوانينه وإلا ستُعاني من عواقب وخيمة، كالسجن أو حتى الموت. يعكس اقتراح لوك لإنشاء الحكومة نهجًا أكثر ديمقراطية بمعنى حكم الأغلبية: "... كل إنسان، بموافقته مع الآخرين على تشكيل هيئة سياسية واحدة تحت حكومة واحدة، يُلزم نفسه... بالخضوع لقرار الأغلبية." ووفقًا للوك، فإن الوظيفة الأساسية للحكومة هي إقرار القوانين من خلال تصويت الأغلبية فيما يتعلق بحماية الحقوق، وخاصة حق الفرد في الملكية: "الغاية العظمى والرئيسية من خضوع الناس للحكومة هي الحفاظ على ممتلكاتهم." تتطلب الحكومة خضوعنا لسلطة شخص آخر. أما خضوعك لحكم شخص آخر، فيتطلب تضحية: فنحن نتخلى عن حق سن القوانين، وتطبيقها، ومعاقبة من يخالفها. وننقل هذه الحقوق إلى فرد أو جماعة تقوم بها نيابةً عنا. تُشكل هذه الأنشطة الأساسية الثلاثة - وضع القوانين، وتطبيقها، ومعاقبة من يخالفها - أساس فروع الحكومة الثلاثة الشائعة في العديد من البلدان.

تعريف الرأسمالية والاشتراكية

هل ينبغي أن يكون مجتمعنا رأسماليًا، أم اشتراكيًا، أم شيئًا بينهما؟ للحكم في هذا النقاش، يجب أن نفهم تعريفي "الرأسمالية" و"الاشتراكية".

التعريفات الأكاديمية

يكمن الفرق الجوهري بين الرأسمالية والاشتراكية في ملكية السلع الرأسمالية والتحكم فيها، أي الأصول (عادةً الآلات والمباني، مثل جزازات العشب وأجهزة الكمبيوتر والمصانع) التي تزيد من إنتاجية العمل، أو توفير السلع والخدمات. وبالتالي، فإن التعريفات الأكاديمية لـ "الرأسمالية" و"الاشتراكية" كنظم اقتصادية هي كما يلي:

الرأسمالية: نظام تكون فيه معظم أو جميع السلع الرأسمالية مملوكة ومسيطر عليها بشكل خاص: مملوكة ومسيطر عليها من قبل أفراد معينين، وليس من قبل المجتمع أو الحكومة.

الاشتراكية: نظام تكون فيه معظم أو جميع السلع الرأسمالية مملوكة ومسيطر عليها اجتماعيًا: مشتركة في مجتمع ويسيطر عليها ذلك المجتمع، وربما من قبل الحكومة.

لاحظ أن هذه التعريفات تتعلق بالسلع الرأسمالية، أو "الملكية الخاصة"؛ يمكن أن تكون السلع الاستهلاكية أو الممتلكات الشخصية، مثل القبعات العالية والبوريتو، مملوكة ملكية خاصة في معظم أشكال الاشتراكية. على النقيض من ذلك، في بعض أشكال الشيوعية والفوضوية، لا يمتلك أي شخص أي سلع ملكية خاصة؛ بل يستخدمها أو يمتلكها فقط. لاحظ أيضًا أن كلا التعريفين متوافقان من حيث المبدأ مع وجود حكومة في المجتمع أو عدم وجودها. لذلك تتميز الأنظمة الرأسمالية الواقعية دائمًا بخصائص أخرى:

انتشار العمل المأجور: يعمل معظم الناس مقابل أجر أو راتب محدد (بدلاً من حصة من أرباح الشركة)؛

انتشار الملكية الغائبة: لا يعمل معظم مالكي معظم السلع الرأسمالية باستخدامها (على سبيل المثال، لا يعمل معظم مالكي أسهم تويوتا في تصميم أو تجميع سيارات تويوتا)؛

دخل الملكية الخاصة: من الممكن كسب المال بمجرد التملك الخاص للعقارات، وليس بالعمل. (قد يقوم بعض الناس "بعمل" في إدارة محافظهم الاستثمارية الخاصة، ولكن حتى من ورث مثل هذه المحفظة ولم يفكر فيها مرتين سيظل قادرًا على تحصيل دخل منها). في المقابل، تتضمن الأنظمة الاشتراكية عملاً مأجورًا قليلًا أو معدومًا، أو ملكية غائبة، أو دخلًا من الملكية الخاصة. بدلًا من العمل المأجور ودخل الملكية الخاصة، قد يعمل الناس مقابل حصة من أرباح شركاتهم، أو قد يحصلون ببساطة على حصة من أرباح ثروة المجتمع، أو قد لا يكون هناك مال على الإطلاق ويأخذ الناس ببساطة ما يحتاجونه.

الأسواق الحرة واللوائح التنظيمية

من الشائع وصف اقتصادات السوق الحرة بأنها أكثر رأسمالية، والاقتصادات الأكثر تنظيمًا بأنها أكثر اشتراكية. ومع ذلك، من الممكن وجود نظام شديد التنظيم، ومع ذلك يكون رأس المال بأكمله مملوكًا للقطاع الخاص: فهناك عمل مأجور، وملكية غائبة، ودخل من الملكية الخاصة، ولكن هناك أيضًا العديد من القوانين التي تحكم العمل، وضرائب مرتفعة. وبالمثل، من الممكن وجود نظام اشتراكي غير منظم في معظمه. وبالمثل، فإن الاشتراكية ليست مرادفة لـ "دولة الرفاهية"، لأن المصطلح الأخير يشير إلى نظام قوانين يهدف إلى إفادة الفقراء والطبقة المتوسطة، ولا يذكر شيئًا محددًا عن من يملك معظم رأس المال. أما النظام الذي يكون فيه رأس المال بأكمله مملوكًا للقطاع الخاص ولكن مع وجود ضريبة دخل عالية، تُستخدم لشراء الخدمات للفقراء، فيمكن اعتباره "رأسماليًا". في الواقع، يمكن القول إن الاشتراكية الأناركية لا تحتوي على أي "لوائح" ولا دولة رفاهية على الإطلاق. لذلك، مع أن اعتبار اللوائح وبرامج الرعاية الاجتماعية اشتراكية ليس مُضلِّلاً عمومًا، إلا أن هذا ليس جزءًا من التعريفات الأكاديمية لـ"الرأسمالية" و"الاشتراكية".

تعريفات خاطئة

حتى الآن، تناولنا التعريفات الأكاديمية لـ"الرأسمالية" و"الاشتراكية". لكن هاتين الكلمتين تُستخدمان أيضًا بطرق أخرى. فلننظر إذن في تعريفين خاطئين:

الرأسمالية: نظام شرير لا يعمل إلا لصالح الأغنياء؛ ينتشر فيه الفقر المدقع وعدم المساواة على نطاق واسع؛ الجميع تقريبًا مستهلكون وجشعون، ولا يسعون إلا إلى جمع المزيد من الثروة؛ العمال مستعبدون لرؤسائهم؛ ولا أحد يحمي البيئة من التدهور.

الاشتراكية: نظام شرير يكون فيه المجتمع ديكتاتوريًا شموليًا؛ الجميع كسالى لأنهم يعلمون أنهم سيحصلون على أشياء مجانية؛ الاقتصاد في حالة من الفوضى، مع انتشار الهدر والفساد في كل مكان؛ الجميع مضطرون لمشاركة فرشاة أسنانهم؛ ويتم استبدال الدين التقليدي والعائلات بعبادة الدولة والحياة في مجتمعات الهيبيز.

هذه التعريفات "خاطئة" لعدم حيادها الكافي؛ إذ يكاد لا أحد يُقر صراحةً أيًا من النظامين الموصوفين، لذا يُعدّ استخدام هذه التعريفات مضيعة للوقت. من الممكن أن تؤدي الرأسمالية (التعريف الأكاديمي) حتمًا إلى الرأسمالية (التعريف الخاطئ)، أو العكس بالنسبة للاشتراكية. لكن هذا سؤال مفتوح وتجريبي - وهذا لا يعني أنه يجب تعريف "الرأسمالية" أو "الاشتراكية" بهذه الطريقة.

أمثلة من الحياة الواقعية؟

جميع المجتمعات الكبيرة كانت لديها اقتصادات مختلطة: بعضها رأسمالي وبعضها اشتراكي. ونتيجةً لذلك، يصعب النظر إلى المجتمعات الواقعية والقول إن فيها جانبًا جيدًا أو سيئًا بسبب الرأسمالية أو الاشتراكية. فنحن لا نعرف دائمًا أي جانب ننسب إليه الفضل أو نلومه. على سبيل المثال، جادل البعض بأن السبب الرئيسي للركود الكبير في الولايات المتحدة كان عدم كفاية التنظيم؛ بينما قال آخرون إنه كان التدخل الحكومي المفرط في سوق الإسكان. وبالمثل، قد يُلقي الناس باللوم على الرأسمالية أو الاشتراكية في بعض الأضرار، عندما يكون النظام المعني رأسماليًا بشكل عام، لكن الضرر ناتج عن جانب اشتراكي، أو العكس. على سبيل المثال، إذا جادل اشتراكي بأن الرأسمالية سيئة لأن نظام العدالة الجنائية غير عادل أو غير فعال، فيمكن لمؤيد الرأسمالية أن يرد بأن نظام العدالة الجنائية خاضع لسيطرة اجتماعية. من ناحية أخرى، إذا جادل مؤيد للرأسمالية بأن الاشتراكية سيئة لأن العديد من المسؤولين في الأنظمة الاشتراكية استخدموا ممتلكاتهم الخاصة لإثراء أنفسهم، فيمكن للاشتراكي أن يرد بأن ذلك لم يحدث إلا لأن النظام لم يكن اشتراكيًا بما فيه الكفاية. عندما تكون المصطلحات المهمة موضع خلاف حول تعريفاتها، فمن الأفضل تحديد التعريفات التي نشير إليها صراحةً. بما أن السمة الأساسية لهذا النقاش هي مسألة ما إذا كان ينبغي أن يكون الناس قادرين على امتلاك رأس المال الخاص أم لا، فيجب أن نبدأ بالتعريفات الأكاديمية. من الإنصاف لكلا الجانبين استخدام تعريفات حيادية وواسعة الانتشار إلى أقصى حد، ثم محاولة الإجابة على السؤال الأخلاقي والاجتماعي المتعلق بأي الترتيبات أفضل.

حجج لصالح الرأسمالية والاشتراكية

لنفترض أن لديّ عصا سحرية تُمكّنني من إنتاج 500 دونات في الساعة. أقول لك: "لنعقد صفقة. استخدم هذه العصا لإنتاج الدونات، ثم بِعها مقابل 500 دولار، وأعطني العائد. سأعطيك 10 دولارات مقابل كل ساعة تقضيها في هذا العمل. سأقضي هذا الوقت في لعب ألعاب الفيديو." يبدو نشاطي - لعب ألعاب الفيديو - سهلاً للغاية. وظيفتك تتطلب جهدًا أكبر بكثير. وقد أحصل في النهاية على أكثر من 10 دولارات مقابل كل ساعة عمل. كيف يكون هذا عادلاً؟

في القصة، تُشبه العصا السحرية السلع الرأسمالية: الأصول (عادةً الآلات والمباني، مثل الروبوتات وماكينات الخياطة وأجهزة الكمبيوتر والمصانع) التي تزيد من إنتاجية العمل، أو توفير السلع والخدمات. تشير التعريفات المعيارية لـ "الرأسمالية" و"الاشتراكية" إلى أن الأنظمة الرأسمالية، بشكل عام، تسمح للناس بامتلاك السلع الرأسمالية والتحكم فيها بشكل خاص، بينما لا تسمح الأنظمة الاشتراكية بذلك.

تميل الأنظمة الرأسمالية إلى احتواء العمل المأجور على نطاق واسع، والملكية الغائبة، ودخل الملكية؛ بينما لا تشمل الأنظمة الاشتراكية ذلك عمومًا. تُعدّ السلع الرأسمالية ذات أهمية أخلاقية. فكما هو الحال مع العصا السحرية، تُمكّن ملكية السلع الرأسمالية المرء من جني أموال طائلة دون عمل. في المقابل، يضطر الآخرون إلى العمل لكسب لقمة العيش. قد يكون هذا ظالمًا أو ضارًا.

يستعرض هذا المقال ويشرح الحجج الرئيسية في هذا النقاش.

الرأسمالية

تميل حجج الرأسمالية إلى القول بأنه من المفيد للمجتمع وجود حوافز لإنتاج وامتلاك واستخدام السلع الرأسمالية كالعصا السحرية، أو أنه من الخطأ منع الناس بالقوة من ذلك. فيما يلي أربع حجج للرأسمالية، مُلخصة بإيجاز:

(١) المنافسة: "عندما يتنافس الأفراد على الأرباح، فإن ذلك يعود بالنفع على المستهلك".

النقد: قد تُشجع المنافسة أيضًا على السلوك الأناني والاستغلالي. وقد توجد المنافسة أيضًا في بعض الأنظمة الاشتراكية.

(2) الحرية: "منع الناس من امتلاك رأس المال يُقيد حريتهم. وقد يُشكل الاستيلاء على دخلهم على شكل ضرائب سرقة".

النقد: ربما يُقيد امتلاك الملكية، في حد ذاته، الحرية، بمنع الآخرين من استخدامها. إذا أعلنتُ أنني أملك شيئًا ما، فقد أُعلن بذلك أنني سأجبرك على عدم استخدامه. وربما تتطلب "الحرية" القدرة على السعي وراء أهداف المرء الخاصة، والتي تتطلب بدورها قدرًا من الثروة. علاوة على ذلك، إذا كان على الناس الاختيار بين العمل والجوع، فقد لا يكون اختيارهم للعمل "حرًا" حقًا على أي حال. ويمكن القول إن التوزيع العام للثروة هو نتيجة "يانصيب طبيعي" تعسفي أخلاقيًا، والذي قد لا يمنح في الواقع حقوق ملكية صارمة على ممتلكات المرء. لم أختر مكان ولادتي، ولا ثروة والديّ، ولا مواهبي الطبيعية، التي تسمح لي باكتساب الثروة. لذا ربما لا يكون انتهاكًا لحقوقي أن آخذ بعضًا من تلك الممتلكات مني.

(3) الخيرات العامة: "عندما يجب مشاركة الأشياء، بما في ذلك رأس المال، مع الآخرين، فلا يوجد أحد لديه دافع قوي لإنتاجها. في المقابل، يزداد المجتمع فقرًا ويزداد العمل صعوبةً لعدم كفاءة الإنتاج.

النقد: قد يكون الناس مدفوعين لإنتاج رأس المال لأسباب إيثارية، أو قد يُجبرون على ذلك في بعض الأنظمة الاشتراكية. بعض الأنظمة التي يُفترض أنها اشتراكية تسمح بإنتاج مربح للسلع الرأسمالية.

(4) مأساة الموارد المشتركة: "عندما يكون رأس المال أو الموارد الطبيعية أو البيئة خاضعةً لسيطرة عامة، لا أحد لديه دافع قوي لحمايتها."

النقد: كما في السابق، قد يكون الناس مدفوعين بالإيثار. مع ذلك، قد تُصنف بعض الأنظمة ذات السيطرة الخاصة الجزئية على رأس المال على أنها اشتراكية.

الاشتراكية

تميل حجج الاشتراكية إلى القول بأنه من الظلم أو الضرر وجود نظام مثل قصة العصا السحرية، نظامٌ يعتمد على العمل المأجور ودخل الملكية على نطاق واسع. إليكم أربع حجج للاشتراكية، مُلخصة:

(1) العدالة: "من الظلم كسب المال بمجرد امتلاك رأس المال، وهو أمرٌ لا يُمكن تحقيقه إلا في النظام الرأسمالي".

النقد: ربما لا يكون للعدالة أهمية أخلاقية تُضاهي أهمية الموافقة، والحرية، وحقوق الملكية، أو النتائج الإيجابية. وربما يوافق العمال المأجورون على العمل، ويتمتع أصحاب رؤوس الأموال بحقوق ملكية على رؤوس أموالهم.

(2) عدم المساواة: "عندما يتمكن الناس من امتلاك رأس المال بشكل خاص، يُمكنهم استخدامه لزيادة ثروتهم مقارنةً بالفقراء، ويُترك العمال المأجورون أكثر فأكثر فقرًا مقارنةً بالأغنياء، مما يُفاقم عدم المساواة القائم بالفعل بين أصحاب رؤوس الأموال والعمال المأجورين".

النقد: هذا ادعاء تجريبي قابل للنقاش. ولعلّ القدرة على امتلاك رأس المال الخاص تُشجّع الناس على الاستثمار في بناء السلع الرأسمالية، مما يُخفّض أسعار السلع والخدمات. علاوة على ذلك، ربما تُسيطر المصالح الخاصة الثرية على الاحتكارات التي تُمنح عادةً من خلال السيطرة الاجتماعية على رأس المال، مما يُلحق الضرر بالفقراء من خلال سنّ قوانين رجعية.

(3) العمل: "يُعزل العمال المأجورون عن عملهم، ويُستغَلّون، ويُحرمون من الحرية لأنهم مُلزمون بإطاعة أوامر رؤسائهم".

الانتقادات: إذا كان هذا الاغتراب والاستغلال ضارّين بالعمال، فلماذا يُوافقون على العمل؟ إذا كان الجواب "لأنهم سيُعانون من مشقة شديدة إن لم يفعلوا"، فإن هذا، بالمعنى الدقيق للكلمة، نقدٌ للسماح بالفقر، وليس نقدًا للسماح بالعمل المأجور.

(4) الأنانية: "عندما يتمكن الناس من امتلاك رأس المال بشكل خاص، فإنهم يسعون بأنانية إلى الربح فوق كل اعتبار، مما يؤدي إلى مزيد من عدم المساواة، والتدهور البيئي، والصناعات غير المنتجة، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والاستعمار، والقتل الجماعي، والعبودية".

النقد: هذه أيضًا ادعاءات تجريبية قابلة للنقاش. ربما عندما يُمنح الناس السيطرة على رأس المال المملوك اجتماعيًا، فإنهم ينتزعون منه ثروات شخصية بأنانية. ربما عندما تكون البيئة خاضعة لسيطرة اجتماعية، يكون لدى كل فرد دافع فردي للإفراط في الحصاد والتلويث.

قد يكون تدخل الدولة في الاقتصاد سببًا رئيسيًا لوجود الصناعات غير المنتجة، والتلوث، وعدم الاستقرار الاقتصادي.

وأخيرًا، بعض أسوأ مرتكبي الشرور التاريخية هي الحكومات، وليست الشركات الخاصة.

نظرية العدالة كانصاف لجون راولز

بعض الناس مليارديرات، بينما يموت آخرون لأنهم فقراء للغاية ولا يستطيعون تحمل تكاليف الطعام أو الدواء. في العديد من البلدان، يُحرم الناس من حقوق حرية التعبير، والمشاركة في الحياة السياسية، أو السعي وراء مهنة، بسبب جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو عوامل أخرى، بينما يتمتع مواطنوهم بهذه الحقوق. في العديد من المجتمعات، فإن أفضل ما يتنبأ بدخلك المستقبلي، أو ما إذا كنت ستلتحق بالجامعة، هو دخل والديك. يبدو للكثيرين أن هذه الحقائق غير عادلة. ويختلف آخرون: حتى لو كانت هذه الحقائق مؤسفة، فهي ليست قضايا عدالة. يجب أن توضح نظرية العدالة الناجحة سبب كون الظلم الواضح غير عادل، وأن تساعدنا في حل النزاعات الحالية. كان جون راولز (1921-2002) فيلسوفًا من جامعة هارفارد، اشتهر بكتابه "نظرية العدالة" (1971)، الذي حاول تعريف المجتمع العادل. تشير كل مناقشة أكاديمية معاصرة تقريبًا حول العدالة إلى "نظرية العدالة". تستعرض هذه المقالة موضوعاتها الرئيسية.

"الوضع الأصلي" و"ستار الجهالة":

كثيرًا ما يختلف العقلاء حول كيفية العيش، لكننا بحاجة إلى هيكلة المجتمع بطريقة يقبلها العقلاء فيه. يمكن للمواطنين أن يحاولوا الاتفاق جماعيًا على قواعد أساسية. لسنا بحاجة إلى تحديد كل تفصيلة: قد نهتم فقط بالقواعد المتعلقة بالمؤسسات السياسية والاجتماعية الرئيسية، مثل النظام القانوني والاقتصاد، التي تُشكل "البنية الأساسية" للمجتمع. كما يُعدّ الاتفاق الجماعي على البنية الأساسية للمجتمع مثالًا مثاليًا جذابًا. لكن بعض الناس أقوى من غيرهم: قد يكون بعضهم أكثر ثراءً، أو جزءًا من أغلبية اجتماعية. إذا استطاع الناس الهيمنة على المفاوضات بناءً على صفات، كما يصفها راولز، تعسفية أخلاقيًا، فهذا خطأ. لا يكتسب الناس هذه المزايا، بل يحصلون عليها بالصدفة. إن استغلال أي شخص لهذه المزايا غير المستحقة لمصلحته الخاصة أمرٌ غير عادل، ومصدرٌ للعديد من المظالم. هذا يُلهم ادعاء رولز المحوري بأن علينا أن نتصور العدالة "كإنصاف". ولتحديد الإنصاف، يُطور رولز مفهومين مهمين: الوضع الأصلي وحجاب الجهل. الوضع الأصلي هو وضع افتراضي: يسأل رولز عن القواعد والمؤسسات الاجتماعية التي سيوافق عليها الناس، ليس في نقاش فعلي، بل في ظل ظروف عادلة، حيث لا أحد يعلم ما إذا كانوا محظوظين. يتحقق الإنصاف من خلال حجاب الجهل، وهو أسلوب مُتخيل حيث يمتلك الأشخاص الذين يختارون البنية الأساسية للمجتمع ("المُتداولون") سمات أخلاقية تعسفية مخفية عنهم: بما أنهم لا يعرفون هذه السمات، فلا يمكن أن يكون أي قرار يتخذونه متحيزًا لصالحهم. مع ذلك، فإن المُتداولين ليسوا جاهلين بكل شيء. إنهم يعلمون أنهم مهتمون بمصلحتهم الذاتية، أي أنهم يريدون أكبر قدر ممكن مما يُسميه رولز الخيرات الأولية (الأشياء التي نريدها، بغض النظر عن شكل حياتنا المثالية). كما أنهم مدفوعون بشعورٍ ضئيلٍ بالعدالة: فهم يلتزمون بالقواعد التي تبدو عادلة، حتى لو التزم بها الآخرون. كما أنهم على درايةٍ بالحقائق الأساسية عن العلم والطبيعة البشرية.

مبادئ رولز للعدالة

يعتقد رولز أن المجتمع العادل سيتوافق مع القواعد التي يتفق عليها الجميع في الوضع الأصلي. ولأنهم يتداولون وراء ستار الجهل، فإن الناس لا يعرفون ظروفهم الشخصية، أو حتى نظرتهم للحياة الكريمة. وهذا يؤثر على أنواع النتائج التي سيؤيدونها: على سبيل المثال، سيكون من غير المنطقي أن يوافق المتداولون على مجتمع يتمتع فيه المسيحيون فقط بحقوق الملكية، لأنه إذا رُفع الستار، وتبين أنهم ليسوا مسيحيين، فسيؤثر ذلك سلبًا على آفاق حياتهم. وبالمثل، يُفترض أن المتداولين لن يختاروا مجتمعًا به ممارسات عنصرية أو جنسية أو غيرها من الممارسات التمييزية الجائرة، لأنهم قد يقعون، وراء الستار، في الجانب الخطأ من هذه السياسات. هذا يُفضي إلى مبدأ رولز الأول في العدالة: لجميع الناس الحق في المطالبة بنفس القدر من الحرية الذي يتمتع به الآخرون. كما يزعم راولز أيضًا أنه نظرًا لجهلهم الذي يتضمن جهلًا بالاحتمالات، فإن المداولين سيكونون حذرين للغاية، وسيطبقون ما يسميه مبدأ "التعظيم": سيهدفون إلى ضمان أن يكون أسوأ وضع ممكن قد ينتهي بهم الأمر فيه هو الأفضل قدر الإمكان من حيث السلع الأساسية. إذا تخيلنا أنفسنا مداولين، فقد ننجذب إلى فكرة المساواة التامة في السلع الأساسية. هذا يضمن، على الأقل، ألا يكون أحد أفضل حالًا منك لأسباب تعسفية. ومع ذلك، قد يكون بعض التفاوت مفيدًا: فإمكانية كسب المزيد قد تحفز الناس على العمل بجد أكبر، مما يؤدي إلى نمو الاقتصاد، وبالتالي زيادة إجمالي الثروة المتاحة. هذا ليس تأييدًا كاملًا للرأسمالية، كما يوضح مبدأ راولز الثاني، الذي يتناول التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية. يتكون المبدأ الثاني من شقين:

أولًا، لن يتسامح الأشخاص في الوضع الأصلي مع التفاوتات إلا إذا لم تُخصص لهم الوظائف ذات الأجور الأعلى بشكل غير عادل. هذا يُعطينا مثالًا للمساواة العادلة في الفرص: لا يُسمح بأوجه عدم المساواة إلا إذا نشأت من خلال وظائف يتمتع فيها الأشخاص ذوو المواهب المتساوية بفرص متساوية في الحصول عليها. يتطلب هذا، على سبيل المثال، أن يحصل الشباب على فرص تعليمية متساوية تقريبًا؛ وإلا، فقد يُعيق الفرد الموهوب بسبب نقص المعرفة الأساسية، سواءً بمواهبه الخاصة أو بالعالم.

ثانيًا، بما أن منطقهم يحكمه مبدأ "التعظيم"، فإن المداولين لن يتسامحوا إلا مع أوجه عدم المساواة التي تُفيد الفئات الأكثر تضررًا: وبما أنهم، على حد علمهم، قد يكونون الأكثر تضررًا، فإن هذا يُعظم جودة أسوأ نتيجة ممكنة لهم. وهذا ما يُسمى بمبدأ الاختلاف.

هذه المبادئ مُرتبة، وهو ما يُخبرنا بما يجب فعله في حال تعارضها: الحرية المتساوية هي الأهم، ثم تكافؤ الفرص، وأخيرًا مبدأ الاختلاف. لذا، لا تخضع الحريات ولا الفرص لمبدأ الاختلاف.

العدالة التوزيعية: كيف ينبغي تخصيص الموارد؟

بينما نكتب هذا، تبلغ ثروة جيف بيزوس، الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، 188 مليار دولار. أي ما يزيد بنحو مليار دولار عن اليوم السابق. وهذا المليار دولار هو مبلغ أكبر مما كنت ستحصل عليه لو كنت تكسب 1000 دولار يوميًا، كل يوم، منذ وفاة المسيح. في الوقت نفسه، يعيش مئات الملايين من الناس حول العالم في فقر مدقع. وبالنسبة للكثيرين، فإن الفقر المدقع لا يفصلهم سوى فاتورة مستشفى أو حصاد فاشل. هذا مثال على توزيع الثروة والموارد الاقتصادية. هناك سلع أخرى ذات صلة هنا أيضًا، مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان. توزيع هذه السلع مهم لأنه يساهم في رفاهيتنا. ومع ذلك، فإن هذه السلع القيّمة نادرة: كيف ينبغي توزيع السلع التي تساهم في الرفاهية؟ هذا هو سؤال العدالة التوزيعية.

المساواة

أحد المقترحات هو أن يحصل الجميع على السلع التي تؤدي إلى قدر متساوٍ تقريبًا من الرفاهية. وهذا ما يُسمى بالمساواة. قد تبدو المساواة عادلة: فالناس متساوون أخلاقيًا، لذا يجب أن يتمتعوا بقدر متساوٍ من الرفاهية. ان المساواة لا تعني دائمًا امتلاك نفس السلع تمامًا: يجب أن نأخذ في الاعتبار بعض الحقائق المتعلقة بالأشخاص: على سبيل المثال، قد يحتاج الأشخاص ذوو الإعاقات الجسدية إلى مزيد من المال لتحقيق نفس مستوى الرفاهية، مثلاً لدفع ثمن كرسي متحرك أو مرافق رعاية المسنين. لكن الاعتقاد بأن المساواة التوزيعية في حد ذاتها قيّمة له بعض الآثار غير البديهية. هذا يعني أنه من الأفضل أحيانًا جعل الناس أسوأ حالًا دون تحسين حال أي شخص: على سبيل المثال، إذا دمرت عاصفة منازل في منطقة غنية من المدينة، مما جعل الأغنياء أقرب إلى مستوى رفاهية الفقراء، يبدو أن المساواة تشير إلى أن هذا أمر جيد لأنه يجعل الأمور أكثر مساواة. لتجنب مثل هذه التداعيات، يجادل كثيرون بأن التفاوتات قد تكون مبررة أحيانًا. على سبيل المثال، بدأت النقاشات المعاصرة حول العدالة التوزيعية فعليًا مع نشر نظرية راولز في العدالة. اقترح راولز أن التفاوتات تكون مبررة إذا - وفقط إذا - أفادت الفئات الأقل ثراءً في المجتمع. لا تزال هذه وجهة نظر مساواتية، حيث يُنظر إلى التوزيع المتساوي على أنه الأساس، ويجب تبرير أي انحراف عنه.

على عكس راولز، رفض آخرون فكرة أن المساواة التوزيعية هي الأساس الأخلاقي تمامًا. نستعرض هنا بعض المبادئ المؤثرة التي دافع عنها الفلاسفة ردًا على مبدأ المساواة وتقديره للمساواة في العدالة التوزيعية.

الأولوية

ينص أحد بدائل مبدأ المساواة على أنه كلما قلّت السلع القيّمة التي يمتلكها الفرد، زادت أهمية السلع الإضافية: على سبيل المثال، ألف دولار إضافية تُهمّ شخصًا فقيرًا أكثر من ملياردير. لذا، إذا كان بإمكاني تقديم منفعة واحدة لشخص ذي مستوى رفاهية منخفض أو لشخص ذي مستوى رفاهية مرتفع، فمن المنطقي منحها للشخص ذي مستوى الرفاهية الأقل. تُسمى هذه النظرة بالأولوية. لا تُعنى الأولوية بعدم المساواة في حد ذاتها: بل تعني أن إعادة التوزيع يجب أن تصبّ غالبًا في صالح الأقل ثراءً. يُعطي أصحاب الأولوية أولويةً مُرجّحة، وليست مُطلقة، للأقل ثراءً. ومع ذلك، هذا يعني أنه إذا استطعنا إفادة الأغنياء بشكل كبير بتكلفة زهيدة على الفقراء، فإن هذه المنفعة قد تفوق أسبابنا لإفادة الفقراء. ولكن في معظم الحالات الواقعية، يُساعد أصحاب الأولوية الأقل ثراءً أولًا. ومع ذلك، يعتقد الكثيرون أنه من المهم للغاية ألا يعيش الناس في فقر، وهو ادعاء يختلف عن إعطاء أولوية مرجحة لاحتياجاتهم. وهذا يقودنا إلى الاقتراح الثالث: الكفاية.

الكفاية

هذا الاقتراح الثالث هو أن على كل فرد أن يحقق حدًا أدنى أو حدًا أدنى من بعض السلع القيّمة، مثل الدخل أو التعليم أو الرعاية الصحية. يجب أن يكون لدى كل فرد ما يكفي على الأقل للوصول إلى هذا الحد. وهذا ما يُسمى بمذهب الكفاية. تعتمد معقولية هذا المذهب على كيفية تطويره: ما الذي يُعد "امتلاكًا كافيًا"؟ الإجابات الشائعة هي أن الناس يجب أن يكونوا قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية أو أن يكونوا راضين بما لديهم. تثير هذه الإجابات تساؤلاتٍ خاصة، مثل غموض معنى "الكفاية". لذلك يدافع البعض عن مبدأ الكفاية على أساس أننا نهتم بعدم المساواة لأن بعض الناس في وضعٍ سيء للغاية: فعندما نجد حالاتٍ من عدم المساواة المُقلقة، مثل التشرد في مجتمعٍ غني، فإن ما يُثير الاعتراض ليس فارق الثروة، بل كون المشردين في وضعٍ سيءٍ للغاية. من الاعتراضات المهمة على مبدأ الكفاية أنه يُفضّل رفع مستوى معيشة الناس فوق الحد الأدنى على أي منفعةٍ أخرى مُمكنة للآخرين: على سبيل المثال، منفعةٌ لشخصٍ واحدٍ تحت الحد الأدنى مباشرةً تُفضّل دائمًا على منفعة ألف شخصٍ فوق هذا الحد مباشرةً. يُعارض الكثيرون هذا الرأي. وجهة نظر أخيرة حول العدالة التوزيعية هي أنه يجب التركيز على كيفية حدوث التوزيعات، وليس على التوزيع نفسه. وهذا ما تنادي به الليبرالية. يقدم روبرت نوزيك مثال ويلت تشامبرلين الشهير. يجعلنا نوزيك نتخيل أناسًا يعطون ويلت دولارًا واحدًا من أموالهم الخاصة مجانًا لمشاهدته يلعب كرة السلة. في هذه الحالة، يحق لويلت الحصول على هذا المال شرعيًا، وبالتالي سيكون من الظلم أن تأخذ الحكومة جزءًا من أمواله، تحت التهديد بالقوة، لإعادة توزيعها. يجادل نوزيك، إذًا، بأنه إذا حُرمت حقوق الناس في اكتساب ونقل السلع - مستبعدين، على سبيل المثال، اكتساب أو نقل السلع باستخدام القوة أو السرقة أو الخداع - فلا يمكننا الاعتراض على مثل هذه التوزيعات باعتبارها غير عادلة، مهما كانت النتيجة النهائية. تعرضت الليبرالية لانتقادات شديدة. ومن المشكوك فيه ما إذا كان التوزيع الحالي للدخل والتعليم والرعاية الصحية، على سبيل المثال، ناتجًا عن أنواع المعاملات الطوعية التي يتطلبها الليبرتاريون.

حجة روبرت نوزيك "ويلت تشامبرلين" لدعم الليبارتارية

بعض الناس أغنياء، والبعض الآخر فقراء. هل هذا أمرٌ سيء؟ يجادل كثيرون بأنه من الظلم أن يكون المجتمع يعاني من تفاوتٍ عميق، وأن على الحكومة التدخل لتوزيع الثروة من فاحشي الثراء على الجميع. يخالف الفيلسوف روبرت نوزيك (1938-2002) هذا الرأي. فرغم أن إعادة توزيع الثروة قد تبدو منطقية، إلا أن نوزيك يعتقد أن قصة نجم كرة السلة ويلت تشامبرلين (1936-1999) تُظهر لماذا لا ينبغي للحكومة أن تأخذ من الأغنياء لمساعدة الآخرين. تشرح هذه المقالة حجة نوزيك التي يستخدمها لدعم "الليبرالية"، وهي وجهة نظره القائلة بأن دور الحكومة ليس إعادة توزيع الثروة، بل تعزيز الحرية.

. قصة ويلت تشامبرلين

تخيل أن تشامبرلين وقّع عقدًا مع فريقه لكرة السلة. يمنح العقد تشامبرلين ٢٥ سنتًا عن كل تذكرة مباعة للمباريات التي يشارك فيها. خلال موسم كرة السلة، يحضر مليون شخص لمشاهدة تشامبرلين. في نهاية الموسم، يصبح أغنى بمقدار ٢٥٠ ألف دولار عن ذي قبل. لا يبدو أن أحدًا يرتكب أي خطأ بدفعه لمشاهدة تشامبرلين. يحق للناس إنفاق أموالهم كما يحلو لهم. لا أحد يتضرر من هذا. لذا، إذا سمحت الحكومة للناس بإنفاق أموالهم بحرية، فلن يكون هناك ما يمنع أي شخص من تحقيق أقصى ثراء ممكن بناءً على موهبته أو اجتهاده أو حظه أو أي شيء آخر.

لا حدود للتفاوت

يجادل نوزيك بأنه بما أن أشخاصًا مثل تشامبرلين يمكنهم الثراء دون حدوث أي مكروه، فلا ينبغي أن يكون هناك حد لمدى تفاوت المجتمع. لا ينبغي للحكومة أن تتدخل لأخذ المال من أي شخص طالما أنه مُنح له بحرية من شخص امتلكه عن حق في المقام الأول. لذا، طالما لم يسرق أحد المال لإعطائه لتشامبرلين، فلا ينبغي للحكومة أن تأخذ أموال تشامبرلين.

منع التفاوت يُخنق الحرية

يجادل نوزيك بأن ضمان المساواة في الثروة يتطلب انتهاكًا غير مبرر للحرية. أي قدر من التفاوت نعتبره "مفرطًا" هو مستوى يمكن الوصول إليه بشيء مثل مثال تشامبرلين. لمنع المجتمع من الوصول إلى هذا التفاوت، يتعين على الحكومة منع المعاملات الحرة، أو إلغاؤها فورًا. سيتعين عليها إما أن تجعل توقيع تشامبرلين على صفقته أمرًا غير قانوني، أو أن تأخذ المال بمجرد كسبه. يعتقد نوزيك أن هذا التنظيم الصارم، أو الاستعادة المستمرة، سيكون ظالمًا. سيتعين على الحكومة أن تمنع الناس من القيام بأشياء مقبولة تمامًا، مثل دفع مبالغ إضافية لمراقبة تشامبرلين، وإلا سيتعين عليها مصادرة أمواله بمجرد كسبها. لكن من الخطأ تقييد الحرية بهذه الطريقة، أو مصادرة دخل تشامبرلين بهذه الطريقة. انه لا ينبغي للحكومة أن تحاول إعادة توزيع الثروة. وهذا صحيح حتى لو كان الوضع الناتج غير متكافئ للغاية، مثل تشامبرلين ثري في مجتمع فقير.

الليبارتارية

حجة نوزيك حول ويلت تشامبرلين هي إحدى الحجج التي يستخدمها للدفاع عن وجهة نظره القائلة بأن أفضل أنواع الحكومات هي تلك التي لا تتدخل في الحرية. دور الحكومة هو تعزيز حرية الجميع، وليس إعادة توزيع الثروة أو تعزيز المساواة الاقتصادية. لذلك، يُعرف نوزيك بأنه "ليبرالي". أحيانًا تُستخدم كلمة "ليبرالي" بمعنى آخر. لكن في الفلسفة السياسية، تشير إلى من يعتقدون أن على الحكومة تعزيز الحرية.يجادل بعض الليبرتاريين بأننا نحتاج إلى المساواة الاقتصادية للحفاظ على الحرية. لكن نوزيك يختلف معهم. تهدف حجة ويلت تشامبرلين التي يقدمها إلى إظهار أن تحقيق المساواة الاقتصادية من شأنه أن يتدخل في الحرية. تتناقض الليبرتارية مع الرأي الذي دافع عنه الفيلسوف جون راولز. يعتقد راولز أن الحكومة أكثر من مجرد مدافع عن الحرية. إنها أيضًا مشروع تعاوني. وبالتالي، يجب أن نوزع منافع هذا التعاون بشكل عادل، وهذا يشمل الدخل الذي يجنيه الناس في المجتمع. يرى رولز أن هذا يتطلب توزيعًا أقرب إلى المساواة، بدلًا من ترك الأغنياء يزدادون ثراءً.

الاعتراضات

وُجّهت اعتراضات عديدة على حجة نوزيك. أحد هذه الاعتراضات هو أن نوزيك مخطئ في ادعائه بأنه طالما تصرف الجميع بحرية، فلا حرج في النتيجة. ربما تؤدي بعض الخيارات الحرة إلى نتائج غير مقبولة. على سبيل المثال، عندما يصبح ويلت تشامبرلين أغنى بكثير من أي شخص آخر، يصبح قويًا ومؤثرًا. يمكنه شراء جميع الشقق وفرض إيجارات علينا للسكن فيها، مما يزيده ثراءً ويزيدنا فقرًا. يمكنه استثمار الأموال في مشاريع مربحة، واستخدام العائدات لتوسيع استثماراته. يمكنه نقل هذه الأموال إلى أبنائه الذين يفعلون الشيء نفسه. قد تكون النتيجة انقسامات طبقية عميقة تستمر قرونًا.لذا، يجادل البعض بأنه لمنعه من امتلاك سلطة مفرطة، يجب على الحكومة إعادة توزيع ثروته الزائدة. وإلا، فلن يكون الناس أحرارًا. سيُسيطر على حياتهم رجال أعمال مثل تشامبرلين وذريته.هناك اعتراض آخر يتمثل في أن نوزيك مُخطئ في ادعائه بأن التصرفات الحرة ستُفسد أي توزيع مُفضل للموارد. ربما يكون صحيحًا أننا لا نستطيع جميعًا الحصول على ثروة متساوية بعد خمس دقائق من انتهاء موسم كرة السلة إلا إذا استخدمت الحكومة يدًا غليظة لإعادة توزيع الأموال. ولكن ربما يكون من الأنسب ضمان تساوي الثروة على مدى فترة زمنية أطول. على سبيل المثال، ربما ينبغي على الحكومة ضمان حصولنا جميعًا على ثروة متساوية تقريبًا طوال حياتنا، بدلًا من تساويها في جميع الأوقات، بما في ذلك بعد موسم كرة السلة مباشرةً. يُمكن للحكومة فرض ضريبة إضافية بسيطة على ويلت تشامبرلين كل عام. ثم يُمكنها إنفاق هذه الأموال على أمور تُفيد الأقل ثراءً، مثل إعانات البطالة. بمرور الوقت، ستعود أموال تشامبرلين الإضافية من كرة السلة إلى الآخرين، مما يضمن المساواة طوال حياة الجميع، بدلًا من أن تُدفع مباشرةً بعد موسم كرة السلة. أثارت حجة ويلت تشامبرلين جدلاً واسعاً حول أنواع العلاقات القائمة (أو التي ينبغي أن تكون قائمة) بين الحكومة والحرية والموارد.ولأن هذا المثال يُبرز بفعالية مواضيع رئيسية، مثل كيفية تعارض الحرية مع التوزيعات المحددة، فقد ظلّ مثالاً خالداً في الفلسفة السياسية.

الخاتمة

يُرجّح أن العيش في ظل عقد أفضل من العيش في حالة الطبيعة. مع ذلك، تبقى بعض التساؤلات.

أولاً، عادةً ما نوافق صراحةً على العقود، لكننا لم نفعل شيئًا كهذا للمجتمع. إذا قيل إننا نوافق ضمنيًا، أي أننا وافقنا ضمنيًا، يُجيب لوك: "تكمن الصعوبة فيما يجب اعتباره موافقة ضمنية، وإلى أي مدى يُنظر إلى أي شخص على أنه قد وافق، وبالتالي خضع لأي حكومة، حيث لم يُبدِ أي تعبير عن ذلك على الإطلاق." لم نوافق صراحةً على أي عقد اجتماعي. هل يوافق المواطنون بمجرد التمتع بمزايا الأشياء التي لا تُتاح إلا بالعيش في المجتمع؟ على سبيل المثال، تُعدّ القدرة على القيادة على الطرق العامة ميزة. لكن هذا لا يتحقق إلا بوجود طرق ممولة حكوميًا. ما لم يرفض شخص ما القيادة على الطرق العامة، بقبوله هذه الميزة، فهل يُعتبر "موافقًا" ضمنيًا؟

يُعد مفهوم لوك للموافقة الضمنية إشكاليًا لأنه يفترض موافقةً مبنيةً على تلقينا منافع. ومع ذلك، تُعد الموافقة الصريحة مهمةً لأن هذا النوع من الموافقة هو علامةٌ على الدخول طواعيةً في عقد. غالبًا ما تكون الموافقة الصريحة بالغة الأهمية - لنأخذ الموافقة في العلاقات الجنسية - ولكن لا يتم الحصول عليها، أو حتى السعي إليها، للمشاركة في المجتمع والحصول على منافع منه.

وهناك مشكلةٌ ثانيةٌ أعمق في مفهوم العقد الاجتماعي، وهي من استُبعد ومن استُبعد. من لم يُسمح له بتوقيع العقد أو المساعدة في صياغته؟ في العديد من المجتمعات، تم استبعاد النساء وغير الأوروبيين عمدًا، وبالتأكيد لن يوافق العديد من الأفراد والمجموعات على الكثير من سياسات وممارسات الحكومات، سواءً في الماضي أو الحاضر.

يمكننا الآن أن نرى كيف يُمكن لنظرية راولز أن تُقيّم القضايا التي طُرحت سابقًا. على الأقل في مجتمعات محددة، يبدو أن كلاً منهما ينتهك مبادئ العدالة الأساسية، وبالتالي يُدان بالظلم. لذا، حتى لو رفضنا في نهاية المطاف نهج راولز، فإنه على الأقل يبدو أنه يقدم إجابات صحيحة بديهيًا في عدة قضايا مهمة، ولأسباب معقولة. من الصعب استخلاص استنتاجات عامة مبررة حول ماهية الرأسمالية أو الاشتراكية الصرفة عمليًا. لكن دراسة مزايا وعيوب كل نظام تُعطينا بعض التوجيهات حول ما إذا كان ينبغي لنا توجيه المجتمع في أيٍّ من الاتجاهين. بغض النظر عن وجهة النظر التي نؤيدها بشأن العدالة التوزيعية، فإن عالمنا الحالي لا يرقى إلى مستوى هذا المثل. عالمنا عالمٌ يسوده عدم المساواة وعدم الكفاية، ولكنه أيضًا عالمٌ يسوده الهدر والإسراف. ورغم اختلاف هذه النظريات، فإنها تتفق جميعها على أن التوزيعات الحالية بعيدة كل البعد عن العدالة، وبالتالي فإن تناول هذه القضايا بوعي وحكمة من شأنه أن يُسهم في تقريبنا من العدالة. فأين الحكمة في التبرير القانوني للنظام السياسي الاقتصادي الذي يعيد انتاج التفاوت بين الأفراد والجهات والدول والشعوب ويعيد تصدير الظلم الحضاري والأزمات الى الأمم المهزومة؟

كاتب فلسفي

 

المراجع

Beitz, Charles (1979) ‘Bounded Morality: Justice and the State in World Politics’ International Organization, 33: 405–424.
Carole Pateman, The Sexual Contract (Stanford University Press, 1988)
Charles W. Mills, The Racial Contract (Cornell University Press, 1997)
Daniels, Norman (2007), Just Health: Meeting Health Needs Fairly Cambridge University Press
Gauthier, David (1986) Morals by Agreement Oxford University Press
Gilbert, Margaret (2006) ‘Reconsidering Actual Contract Theory’ in A Theory of Political Obligation: Membership, Commitment, and the Bonds of Society. Oxford University Press. 215-238
Glover, Jonathan (1990) Utilitarianism and its Critics Macmillan Publishing
Harsanyi, John (1975) ‘Can the Maximin Principle Serve as a Basis for Morality? A Critique of John Rawls’ Theory’ America Political Science Review 69(2): 594-606
Kant, Immanuel (1793) ‘On the common saying: this may be true in theory but it does not apply in practice’ in Kant’s Political Writings (1970), edited by Hans Reiss, translated by H. B. Nisbet. Cambridge University Press (61-93)
Hume, David (1738) A Treatise of Human Nature
John Locke, Second Treatise of Government (1690), ed. C.B. Macpherson (Hackett, 1980)
Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract (1762) (Penguin Books, 1968)
Jean-Jacques Rousseau, Discourse on the Origin of Inequality (1754) (Indianapolis: Hackett, 1992)
Mills, Charles (2009) ‘Rawls on Race/Race in Rawls’ The Southern Journal of Philosophy (2009): 161-184
Moller Okin, Susan (1989) Justice, Gender and the Family New York: Basic Books
Narveson, Jan (2001) The Libertarian Idea Broadview Press
Nozick, Robert (1974) Anarchy, State and Utopia Wiley-Blackwell
Nussbaum, Martha, (2006), Frontiers of Justice: Disability, Nationality, Species Membership, Cambridge: Harvard University Press.
Rawls, John (2002) The Cambridge Companion to Rawls edited by Samuel Freeman. Cambridge: Cambridge University Press
Rawls, John (2005) Political Liberalism: Expanded Edition Columbia University Press
Rawls, John (1971) A Theory of Justice Cambridge, MA: Harvard University Press
Rawls, John (1999a) The Law of Peoples Cambridge, MA: Harvard University Press
Rawls, John (1999b) A Theory of Justice: Revised Edition Cambridge, MA: Harvard University Press
Rawls, John (2001) Justice as Fairness: A Restatement Erin Kelly ed. Cambridge, MA: Harvard University Press
Rowlands, Mark (1997) ‘Contractarianism and Animal Rights’ Journal of Applied Philosophy 14 (3):235–247
Shelby, Tommie (2013) ‘Racial Realities and Corrective Justice: A Reply to Charles Mills’ Critical Philosophy of Race 1(2): 145-162.
Sen, Amartya, (1980), ‘Equality of What?’ in Tanner Lectures on Human Values, S. MacMurrin (ed.), Cambridge: Cambridge University Press.
Sandel, Michael (1998) Liberalism and the Limits of Justice Cambridge: Cambridge University Press
Sen, Amartya (1992) Inequality Re-examined Cambridge, MA: Harvard University Press
Taylor, Charles (1985). ‘The nature and scope of distributive justice’ in Philosophy and the Human Sciences: Philosophical Papers 2 Cambridge: Cambridge University Press: 289-317
Wenar, Leif, (2017) ‘John Rawls’, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
Thomas Hobbes Leviathan (1651), ed. Michael Oakeshott (Simon and Schuster, 1962)

كاتب فلسفي

 

تقديم
          حينما يكون موضوع حديثنا عن فلسفة التاريخ، فإنه يكون بشكل أو بآخر مرتبطا بالحديث عن أعظم عقل في التاريخ، وهو نفسه صاحب كتاب "العقل في التاريخ" ونعني به "جورج وليام فرديريك هيغل" [1831-1770]، الذي نظر إلى التاريخ على نحو مختلف عن كل الأحداث التاريخية وأخبار الممالك والدول التي كانت في القرون الأولى والتي سجلات من لدن المؤرخين في سجلات التاريخ. إن النظرة الهيجيلية للتاريخ هي نظرة لتاريخ العالم نفسِه؛ أو بالأحرى هي نظرة للتاريخ من حيث هو مسار صراع الروح وهي في رحلتها لكي تصل إلى مرحلة الوعي بذاتها. وهذا يعني في حقيقته أن للتاريخ غاية يسعى إلى تحقيقها، وليس هذه الغاية إلا تحقيق الوعي الذاتي للروح الذي لاينفك بأي حال من الأحوال عن الحرية؛ فالروح حرية، والحرية هي ماهية الروح وحقيقته. تاريخ العالم إذن هو مسار تكافح فيه الروح لكي تصل الى وعيها بذاتها؛ أعني أن تكون حرة. فلفهم هذا المسار، والمنظور الهيغيلي للتاريخ، نجد أنفسنا أمام اشكالات تكون هي محور اشتغالنا في هذه الدراسة، وهي كالآتي: ما المقصود بالتاريخ حسب هيغل؟ ما هي غايته؟ وهل له أي اتجاه؟ من أين يبدأ وأين ينتهي؟   

 والآن، بعد أن حصرنا موضوع مقالنا في هذه الإشكالات، كان لابد من أن نضع خطة منهجة، ولذلك عملنا على تقسيم هذه الدراسة إلى فصلين ومبحثين لكل منهما، وذلك على النحو التالي:

  • الفصل الأول: هيغل وعصره.
  • المبحث الأول: هيغل حياته وبعض أهم أعماله.
  • المبحث الثاني: الثورة الفرنسية وآثارها على هيغل.
  • الفصل الثاني: التاريخ والحرية في فلسفة هيغل.
  • المبحث الأول: التاريخ غايته ومسار تقدمه.
  • المبحث الثاني: الدولة البروسية ونهاية التاريخ.
  • الفصل الأول: هيغل وعصره.
  • المبحث الأول: هيغل حياته وبعض أهم أعماله.
    • حياته:

     هو جورج ويليام فردريك هيجل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel)، ولد في ولايــة بادن فورتمبرغ الألمانية، في 27 أغسطس 1770، وكان الإبن الأكبر في أسرة متواضعة، حيث يعمل الأب كموظف صغير في الحكومة. وأظهر هيجل منذ سن مبكر ميلا قويا نحو دراسة التاريخ  والآداب اليوناني واللاتيني، ولما بلغ الثامنة عشر إلتحق بجامعة توبنغن، واختار التخصص في دراسة اللاهوت، لكنه كان مدفوعا بطموح أكبر يتجاوز هذا اللون من الدراسة إلى دراسة الطبيعة والفلسفة. لقد أعجب هيغل إلى حد كبير بأفكار جان جاك روسو، خصوصا تلك المتضمنة في كتابه ”العقد الإجتماعي“، كما انجذب إلى أفكار كانط وأفلاطون وغيرهم من الفلاسة الذين كان لهم الفضل في توجيهه الفلسفي.[2]

 بعض الفلاسفة واللغة
يقول نيتشة رغم مقولته الاستفزازية موت الاله ( اللغة من ابداع الله).
غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني).
مارتن هيدجر( الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا)
 وليفريد سيلارز ( الوجود لغة)
جون سيرل ( الله لغة)
كاتب المقال ( تضليل العقل هي العاطفة وليس اللغة)
فلاسفة البنيوية (كل شيء نجده في اللغة ولا شيء خارجها)
اذا اخذنا عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تبريري يسوغ لنا تمرير العبارة سوى عبارة شيلر كل شيء ندركه نجده مجتمعا بالانسان. بمعنى موجودا باللغة. كخاصية نوعية تعريف المعنى الدلالي لله القادر على الخلق.

سبق لفيورباخ المعنى نفسه قوله: الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به الها متعاليا يمثل كل شيء ويحتويه لذا اعتبره – اي الانسان -  معبودا خالقا غير مخلوق لا يدركه العقل.

اما اذا اردنا توضيح عبارة غادمير اللغة هي احد الالغاز العظيمة بالتاريخ الانساني فهي ترى اللغة هي تاريخ تطور الانسان انثروبولوجيا. وهذا التطور التاريخي الانثروبولوجي هو الذي قاد تطور اللغة في تخارج متبادل بين الاثنين. اللغة لم تصنع تاريخ الانسان الانثروبولوجي بل التاريخ يصنع اللغة في صيرورتها التطورية.

وهي لغة متمايزة خاصة بنوع من الانواع والاقوام البشرية ومن هنا نجد تعدد الاف اللغات واللهجات الخاصة بكل قوم او امة او شعب. وملازمة انثروبولوجيا التاريخ للغة هي ملازمة وجودية كمعطى تصنيعي من ظواهر الطبيعة وتجلياتها ولا يمكننا تصور علاقة انفكاك انفصالي بينهما. تاريخ انثروبولوجيا الانسان في ملازمة اللغة له كلاهما تصنيع ارادة الانسان في تغيير الحياة نحو الافضل باستمرار.

مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا. العبارة خاطئة قبل خطا المعنى في التراتيبية الاسبقية فالانسان كائن عقلي قبل ان يكون كائنا لغويا واللغة نتاج تفكير العقل. هذه الاسبقية للعقل على اللغة هي ناتج الانسان كائن انثروبولوجي متطور على الدوام. فالعقل الانساني يسبق خاصية اللغة في حقيقتها انها تفكير تصنيعي للعقل. حيث ان العقل ماهية تمتلك خاصية نوعية انها فاهمة مفكرة لمعرفة الوجود والمعرفة واختراع اللغة.

ارى في عبارة سيلارز الوجود لغة تلخيصا فلسفيا عميقا مكتف المعنى. ومن الخطا الجسيم اضفاء الصفة المثاية عليها بل هي في عمق التعبير المنطقي الكامل. من حيث ان كل مدركات العقل المادية الواقعية منها او المتخيلة كموضوعات انما هي تعبير لغوي في حالتي النطق والكتابة او في حالة الصمت التفكيري الساكن.

(كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوّة من الظلمات) باسكال

 باسكال الفيلسوف اللاهوتي المؤمن حتى نخاع العظم واضع نظرية الايمان بالله براجماتيا في حالتي وجود الله او نكران وجوده. ربما مرت على الكثيرين مقولته الفلسفية الذرائعية انك لو افترضت الله موجودا وتصرفت اخلاقيا وسلوكيا بضوء هذا الايمان ففي النهاية سوف لن تخسر شيئا. والعكس من ذلك انك لو وجدت ان لا اله موجود بالحياة الاخرى فايضا ستكون لست خاسرا شيئا لانك ربحت الحياة الدنيا على حساب لا وجود الخلود.

باسكال اراد خلق توافق وانسجام بين حقيقة لا معنى وجود الانسان وهو ما اخذت به الفلسفة الوجودية الغربية لاحقا والعديد من مدارس الادب في اللامعقول والعدمية والسريالية وغيرها. مع ربط باسكال الميتافيزيقي وجود الانسان الافتراضي بأن الحياة البشرية تدور فيما اطلق عليه نيتشة العود الابدي. ملخصه هو ان ما يحدث ويندثر استهلاكيا في حياتنا سوف ينبعث لاحقا مجددا في دورة وتكرار لا ينتهي ابدا.

 بضوء هذه الخلفية التي هي مختلفة التعبيرعنها لدى كل من لايبنتيز عالم الرياضيات الالماني والفيلسوف اللاهوتي الكبير. التي عّبر عنها باسكال في مقولته كل شيء غارق بالظلمات وهي نظرة فلسفية لا ادرية متشائمة تميل جدا الى ميتافيزيقا التفكير الفلسفي كما في الوجودية والعدمية.. باسكال من منطلق خلفية لاهوتية مؤمنة ليست نيتشوية عبّرعنها باسكال أن الحياة الفانية التي نعيشها لا بد أن تنبعث من جديد لاحقا بالخلود الابدي في الجنان السماوية..

العدمية الوجودية التي عبّر عنها باسكال في عدم قدرتنا ومحدودية تفكيرنا فهم الحياة بشمولية من المعنى الذي لا نجد الوضوح التام بكل شيئ مما ندركه او في كل شيء لا ندركه. باسكال انما كان متصالحا مع ذاته في فهمه الوجود بخلفية ايمانية لاهوتية مؤمنة بالله كما ذكرنا. هذه النزعة اللاهوتية عند باسكال لا تلبث ان تصطدم بجدار التدين البراجماتي عنده في ان للحياة معنى  وجديرة ان نعيشها.

 فولتير والاخلاق

 على خلاف من ديكارت نجد فولتير لا يؤمن بالخلود رغم تأرجحة المتناقض بين ايمانه بالعناية الالهية وبين التراجع عنها. فهو يعتبر الخلود لا فائدة منه في تاسيس الاخلاق. اراد فولتير بذلك القول ليس شرطا ان يكون الايمان بالله كفيل ان يمنحنا السلوك الاخلاقي السليم على صعيدي الفرد والمجتمع. وهي نظرة (اكسيولوجية)   قيمية اخلاقية صحيحة يؤيدها التطور الانثروبولوجي للاخلاق عند الانسان. فالنزوع الاخلاقي في حب الخير فطرة غريزية عند الانسان هي اسبق على معرفته الاخلاق في مرجعية وصايا الدين المكتسبة. فقد نجد ملحدا اليوم يحمل من قيم الفضيلة والاخلاق وتمسكه بالضميرالانساني النظيف لايجاريها فيه ولا نجدها عند رجال دين متزمتين يتاجرون بازدواجية الاخلاق في سلوكهم الزائف وليس في عامة الناس  العادييين.

تمهيد

جاستون باشلار 1884 – 1962 فيلسوف فرنسي، متوزع الاهتمامات الفلسفية، يعتبر من ابرز فلاسفة القرن العشرين في مبحث العقلانية العلمية، وكان في بداية مسيرته الفلسفية متاثرا بانشتاين منتقلا الى جانب مغاير تماما هو إهتمامه بنيتشة.

وإهتم بالمبدأ الفلسفي التقليدي في الظاهراتية (الفينامينالوجيا) لدى هوسرل بموضوعة الوعي القصدي الذي كان مصدر إجماع فلسفي وصل الى الفلاسفة الاميركان من بعد فلاسفة اوربا. ليتوجه باشلار بعدها دراسة الفن والجمال والشعر، وعمل استاذا بجامعة السوربون الفرنسية العريقة الشهيرة، مؤلفاته اغلبها مترجمة الى العربية، حيث اصدر كتابه العقل العلمي الجديد عام 1934، وكتابه الثاني العقلانية التطبيقية 1848، والثالث تكوين العقل العلمي 1938، وكتابه المادية العقلانية 1953 وهي المرحلة الاولى في تركيزه على فلسفة العلم. قبل إنتقاله  الاهتمام بفلسفة المكان والفن والشعر.

باشلار فيلسوف لا نستطيع القول عنه موسوعيا بالقياس الى غيره من فلاسفة القرن العشرين لعل ابرزهم هيجل بيرتراندراسل ولايبنتيز وهيوم وغيرهم، لكن لا يمكن غمط حقّه أنه متعدد الاهتمامات الفلسفية التي لاقت اقبالا متميزا.

باشلار لم يكن فيلسوفا يلفت الانتباه إلا في اواخر سني حياته. والمتتبع لفلسفة باشلار يجده يمزج تفكيره الفلسفي العلمي بنوع من المثالية التي تجعله شأنه  شأن العديد من الفلاسفة الذين وجدوا التمركز حول الذات ربما يكون الطريق الوحيد فلسفيا لادراك العالم ومعرفة حقائقه المعرفية العامة والعلمية المتخصصة معا.

الوعي القصدي وباشلار

مرتكز الوعي الذاتي القصدي رغم تشعب وجهات النظر الفلسفية حوله نجده أصبح قاسما مشتركا بين عديد من الفلاسفة منذ أشار برينتانو اليه ليتبناه هوسرل في الظاهراتية الفينامينالوجيا لياخذه هيدجر عنه، ومن بعده سارتر في تحفظ منفرد خاص به، لينتقل ويصبح مبحثا خصبا لدى الفلاسفة الاميركان مثل جون سيرل، وريتشارد رورتي، وسيلارز وسانتيانا وغيرهم. وسمات الوعي القصدي الفلسفي نعرض بعضها:

  • الوعي الذاتي وسيلة إدراك الوجود والعالم الخارجي بقصدية مسبقة. حيث الوعي القصدي لا يروم تحقيق ذاتيته بالمغايرة الوجودية مع غيره، وإنما الوعي القصدي هو أولا وأخيرا من أجل فهم العالم وليس من أجل إدراكه فقط. الوعي القصدي وعي معرفي وليس وعيا إدراكيا محايدا.
  • اقصاء وعي الذات من معادلة التوسيط بين الإدراك المعرفي للعالم وبين توكيد فاعلية الذات كوجود يثبت نفسه بالمغايرة، ما يخلق شرخا معرفيا غائرا في تفكير العقل فهم الوجود. الوعي خلاصة تفكير العقل بمعرفة الوجود.
  • الوعي الذاتي لا يكتفي بفهم العالم بمجردات الفكر، وإنما الذات تكون لها أهمية تجريبية علمية ربما تتجاوز، المحايدة العلمية الصارمة التي ترى أسبقية المعرفة العلمية تقوم على حيادية التجربة العلمية وليس على أهواء الذات الإدراكية. فما ينتج عن التجربة العلمية ربما لا يطابق الوعي القصدي المرجو سلفا تحقيقه بالتجربة.
  • ربما يكون جاستون باشلار متفردا فلسفيا إعتباره الذات المحضة في تعبير قريب من العقل المحض عند كانط، قوله " موضوع المعرفة مستقل عن التجربة، وكل معرفة محددة، أي ميتافيزيقا ". الذات دونما قصدية تسبقها تصل الى إدراك لا تحدّه الذات بل تحكمه نتائج التجربة".

تمهبد

يُعد كارل ماركس (1818-1883) أحد أكثر الشخصيات التاريخية تأثيرًا وإثارةً للجدل. كرّس معظم وقته لمحاولة فهم الآليات الداخلية للاقتصادات الرأسمالية. وكان أيضًا فيلسوفًا مهتمًا بعزل الأفراد في ظل الرأسمالية عن إمكاناتهم الاجتماعية والإبداعية. على نطاق أوسع، كان ماركس فيلسوفًا تاريخيًا، وضع نظريةً لتطور المجتمعات البشرية وتحولها بشكل عام - وهي نظرية تُعرف باسم المادية التاريخية. تقدّم هذه المقالة هذه النظرية مع البحث في تجلياتها التاريخية وتبحث في الاغتراب والتحرر السياسي والتغيير الاجتماعي. فكيف تساعد الفلسفة الماركسية الشعوب المقهورة والامم المضطهدة من التحرر من الاستعمار الصهيوامبريالي؟

١. ما هي المادية التاريخية؟

طُرحت أطروحاتٌ مختلفة لتفسير مسار التاريخ البشري: على سبيل المثال، أن التاريخ يتشكل أساسًا من خلال أفعال أفراد استثنائيين. أو أنه يُظهر تطوّر وعي الإنسانية بالحرية. أو أن الحضارات تنمو وتتلاشى كالكائنات الحية. أو أن التاريخ ليس له نمط، بل هو "مجرد حدثٍ مُلعونٍ تلو الآخر". يرى ماركس أن العامل الرئيسي المُحدد لشكل أي مجتمع وتطوره هو طريقة تفاعله مع بيئته المادية للحفاظ على وجوده - أي أسلوب إنتاجه. ويشمل ذلك قدراته التكنولوجية ("قوى الإنتاج") والبنية الاقتصادية ("علاقات الإنتاج") المُستخدمة لتسخير هذه القدرات. تشمل قوى الإنتاج وسائل الإنتاج (الأدوات والآلات والمواد الخام) وقوة عمل العمال (القوة والمهارة والمعرفة). علاقات الإنتاج هي علاقات اجتماعية للتحكم في قوى الإنتاج، سواءً وسائل الإنتاج أو قوة العمل. يعكس تقسيم المجتمع إلى طبقات اقتصادية التوزيع غير المتكافئ للسلطة على عملية الإنتاج والثروة المُنتجة. يقول ماركس: "إن نمط إنتاج الحياة المادية يُحدد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام". وبشكل خاص، يُحدد الهيكل الاقتصادي ("القاعدة") للمجتمع طبيعة "بنيته الفوقية" من المؤسسات القانونية والسياسية والأيديولوجية السائدة. يجادل ماركس بأنه مع مرور الوقت، تُعيق ("تُقيّد") القدرات التكنولوجية المتنامية للمجتمع ببنيته الاقتصادية الثابتة نسبيًا. ويؤدي هذا الخلل المتزايد في النهاية إلى ثورة: إذ يُستبدل الهيكل الاقتصادي للسماح بمزيد من النمو التكنولوجي، وتخضع المؤسسات السياسية والقانونية للمجتمع وأيديولوجيته لتغيير مُقابل. على سبيل المثال، عندما أصبحت الاقتصادات الإقطاعية القائمة على الأراضي في العصور الوسطى الأوروبية عائقًا أمام نمو القوى الإنتاجية للمجتمع، حلت محلها الاقتصادات الرأسمالية القائمة على المنافسة السوقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوظيف العمال المأجورين. ترسخت هذه الاقتصادات بفعل الهيمنة السياسية للطبقة الرأسمالية، وهيمنة أيديولوجية الفردانية الاستحواذية.

2. الحتمية التكنولوجية؟

ما الذي يُحرك التغيير التاريخي في نهاية المطاف؟ ترى إحدى المدارس الفكرية أن نظرية ماركس شكلٌ من أشكال الحتمية التكنولوجية "حيث التاريخ، في جوهره، هو نمو القوة الإنتاجية البشرية، وأن أشكال المجتمع تزدهر وتنهار وفقًا لما تُمكّنه أو تُعيق هذا النمو". أما آخرون، وإن لم يُنكروا أن التكنولوجيا قد تُمهّد الطريق للتغيير التاريخي، فهم يُصرّون على أن ماركس يُسند الدور الرئيسي للصراعات بين الطبقات الاقتصادية المختلفة. في البيان الشيوعي، يُعلن ماركس وزميله فريدريك إنجلز (1820-1895): "إن تاريخ أي مجتمع قائم حتى الآن هو تاريخ صراعات طبقية".

3. الرأسمالية

تشمل نظرية ماركس العامة للتاريخ المجتمعات من جميع الأنواع، ولكل نوع سمات فريدة. نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظامٌ يتوسع ذاتيًا وغير مستقر، يتميز بدورة "ازدهار وكساد". لقد أعطت المنافسة السوقية زخمًا غير مسبوق لتطور التكنولوجيا، بينما قوّضت الروابط والقيم الاجتماعية التقليدية، وركزت رأس المال في أيدي قلة قليلة تسيطر على وسائل الإنتاج. لكنها في الوقت نفسه ولّدت طبقة عاملة تزداد تكاملًا، وتدرك قوتها الكامنة من خلال تطور النظام الذي يستغلها. في البداية، اعتقد ماركس وإنجلز أن النضال لإسقاط الطبقات الرأسمالية الحاكمة يتطلب العنف؛ ولكن بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، أصبحا يعتقدان أنه في بعض البلدان ذات المؤسسات البرلمانية، يمكن للطبقة العاملة الفوز بالسلطة بالوسائل السلمية. سيسمح الانتقال من الرأسمالية بتحقيق مجتمع ديمقراطي حقيقي بلا طبقات ("الشيوعية")، مما يضع حدًا لتاريخ الصراعات الطبقية. لقد أثبتت الرأسمالية أنها أكثر مرونة بكثير مما توقعه ماركس. ومع ذلك، فإن إضافة الأزمات البيئية إلى التحديات التقليدية للرأسمالية تُنذر بعاصفة عاتية، يعتقد الكثيرون أن النظام سيواجه صعوبة في الصمود في شكله الحالي. فهل النظرية متماسكة؟

يرى بعض النقاد أن نظرية ماركس في التاريخ إما خاطئة أو سطحية. فإذا كانت ترى أن "البنية الفوقية" القانونية والسياسية للمجتمع ليست سوى نتيجة لنمط الإنتاج، فهي خاطئة بوضوح لأن السياسة والقانون والأيديولوجيا تؤثر تأثيرًا عميقًا على هذا النمط. على سبيل المثال، لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يستمر يومًا واحدًا بدون القوانين والنظام القضائي الذي يحمي الملكية الخاصة ويدعم الأسواق، ويُمكّن التجارة، ويضمن الأمن، إلخ. من ناحية أخرى، إذا فُسِّرت نظرية ماركس على أنها تعني أن كل جانب من جوانب النظام الاجتماعي يؤثر على كل جانب آخر، فهي صحيحة ولكنها سطحية. سعى المدافعون عن ماركس، بدءًا من إنجلز، إلى إيجاد سبل للتوفيق بين فكرة الأسبقية التفسيرية لنمط الإنتاج وحقيقة التأثير المتبادل. وتتضمن أعمال الباحثين في العقود الأخيرة محاولاتٍ مبهرة لإثبات إمكانية تفسير النظرية بطريقة متماسكة وغير سطحية.

- مفهوم كارل ماركس للاغتراب

يتميز فكر كارل ماركس بشموليته وتأثيره الكبير، لا سيما في الفلسفة وعلم الاجتماع. يشتهر ماركس بنقده اللاذع للرأسمالية. يؤكد نقده الرئيسي الأول أن الرأسمالية تُغري الناس في جوهرها. أما نقده الرئيسي الثاني، فيؤكد أن الرأسمالية استغلالية في جوهرها. يركز هذا المقال تحديدًا على نظرية ماركس في الاغتراب، والتي ترتكز على ادعاءات ماركس المحددة حول كل من الاقتصاد والطبيعة البشرية.

١. تحليل ماركس للرأسمالية

يعتبر ماركس مفهوم وسائل الإنتاج مفهومًا اقتصاديًا بالغ الأهمية. تشمل وسائل الإنتاج كل ما يلزم تقريبًا لإنتاج السلع، بما في ذلك الموارد الطبيعية والمصانع والآلات. في الاقتصاد الرأسمالي، على عكس الاقتصاد الشيوعي أو الاشتراكي، تكون وسائل الإنتاج مملوكة ملكية خاصة، كما هو الحال عندما يمتلك رجل أعمال مصنعًا. ان العنصر الأساسي الذي لا يُدرج ضمن وسائل الإنتاج هو العمل. ونتيجةً لذلك، يجد أعضاء الاقتصاد الرأسمالي أنفسهم منقسمين إلى طبقتين متمايزتين: أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج (الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية) وأولئك الذين لا يملكونها (البروليتاريا).

٢. مفهوم ماركس للوجود النوعي

يرى ماركس أن كون الرأسمالية وتقسيمها الطبقي نظامًا مناسبًا للبشر يعتمد على الطبيعة البشرية.لأن البشر كائنات بيولوجية، وليسوا مجرد عقول غير مادية عائمة، علينا التفاعل مع العالم الطبيعي وتحويله من أجل البقاء. لكن ما يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى، كالنحل والعناكب والقنادس، والتي تُغير العالم غريزيًا، هو أننا نُغيره بوعي وحرية. وهكذا، فإن جوهر الإنسان - ما يُسميه ماركس كينونتنا النوعية - هو تحويل العالم بوعي وحرية لتلبية احتياجاتنا. ومثل العديد من الفلاسفة الآخرين، يعتقد ماركس أن القيام بما يُميزنا كبشر على أكمل وجه هو المصدر الحقيقي للإنجاز.

3. الاغتراب في المجتمع الرأسمالي

يمكننا الآن توضيح ادعاء ماركس بأن الرأسمالية تُغريب. الفكرة العامة للاغتراب بسيطة: يصبح الشيء مُغتربًا عندما يبدو ما هو (أو ينبغي أن يكون) مألوفًا ومتصلًا غريبًا أو منفصلًا. ولأن كينونتنا النوعية هي جوهرنا كبشر، فيجب أن يكون شيئًا مألوفًا. بقدر ما نعجز عن التصرف وفقًا لطبيعة جنسنا، نصبح منفصلين عن طبيعتنا. فإذا كان العمل في المجتمع الرأسمالي يعيق تحقيق طبيعة جنسنا، فإن العمل يُسبب لنا الاغتراب. وبما أننا نُعزل عن طبيعتنا، فإن الاغتراب ليس مجرد شعور ذاتي، بل يتعلق بواقع موضوعي. فكيف يُعزل العمال عن طبيعة جنسهم في ظل الرأسمالية؟

يُميز ماركس بين ثلاث طرق محددة.

أ. يُعزل العمال عن غيرهم من البشر. في الاقتصاد الرأسمالي، يتنافس العمال فيما بينهم على الوظائف والزيادات. ولكن كما تُخفض المنافسة بين الشركات أسعار السلع، تُخفض المنافسة بين العمال الأجور. وبالتالي، ليست البروليتاريا هي المستفيدة من هذه المنافسة، بل الرأسماليون. وهذا لا يُلحق ضررًا ماديًا بالعمال فحسب، بل يُبعدهم عن بعضهم البعض. البشر كائنات حرة، ويمكنهم التعاون من أجل تغيير العالم بطرق أكثر تطورًا وفائدة. لذا، ينبغي أن ينظر العمال إلى بعضهم البعض كحلفاء، لا سيما في مواجهة طبقة رأسمالية تسعى إلى تقويض تضامن العمال لمصلحتها الخاصة. لكن في ظل الرأسمالية، ينظر العمال إلى بعضهم البعض كمنافسين متعارضين.

ب. يُعزل العمال عن منتجات عملهم. لا يحتاج الرأسماليون إلى القيام بأي عمل بأنفسهم - فبمجرد امتلاكهم لوسائل الإنتاج، يسيطرون على ربح الشركة التي يملكونها، ويثرون من ذلك. لكن لا يمكنهم تحقيق الربح إلا من خلال بيع السلع، التي ينتجها العمال بالكامل. وهكذا، فإن منتجات عمل العامل تُعزز الرأسماليين، الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح البروليتاريا. يفعل العمال هذا كعمال، ولكن أيضًا كمستهلكين: كلما اشترى العمال سلعًا من الرأسماليين، فإن ذلك يُعزز أيضًا موقف الرأسماليين. وهذا يتعارض مرة أخرى مع وجود العمال كنوع. ينتج البشر استجابةً لاحتياجاتنا؛ ولكن بالنسبة للبروليتاريا على الأقل، فإن تقوية الطبقة الرأسمالية ليست بالتأكيد إحدى تلك الاحتياجات.

ج. يُعزل العمال عن فعل العمل. لأن الرأسماليين يمتلكون الشركات التي توظف العمال، فإنهم، لا العمال، هم من يقررون ماهية السلع التي تُصنع، وكيفية صنعها، وظروف عملها. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يكون العمل مُملًا ومتكررًا، بل وخطيرًا. قد يكون هذا العمل مناسبًا للآلات، أو للكائنات التي لا تملك القدرة على تحديد طريقة عملها بوعي وبحرية، ولكنه غير مناسب للبشر. إن تحمل هذا العمل لفترة طويلة يعني أن المرء لا يمكنه البحث عن الرضا إلا خارج نطاق عمله؛ بينما "نشاط العمل، الذي يُمثل مصدرًا محتملًا لتعريف الإنسان لذاته وحريته، قد تدهور إلى ضرورة للبقاء على قيد الحياة". وكما يقول ماركس في فقرة شهيرة: لذا، في عمله، لا يُؤكد العامل نفسه بل ينكرها، لا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، لا يُنمّي طاقته الجسدية والعقلية بحرية، بل يُميت جسده ويُدمر عقله. لذلك، لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي عمله يشعر بأنه خارج ذاته. يشعر بأنه في بيته عندما لا يعمل، وعندما يعمل لا يكون في بيته." إذا كان ماركس مُحقًا في كل هذا، فإن الشكاوى المعاصرة من الطبيعة المُهينة للعمل ليست مُبالغة. بقدر ما تمنعنا الرأسمالية من تحقيق كينونتنا كنوع، فهي، حرفيًا، مُجرّدة من الإنسانية.

--- حول شعار كارل ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته"

يُعدّ شعار "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" أحد الأوصاف القليلة الصريحة للشيوعية التي طرحها الفيلسوف الألماني كارل ماركس. يتصور ماركس الشيوعية كنظام اقتصادي يُدير فيه العمال أنفسهم بحرية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. نتناول هنا أصول هذا الشعار ومعناه.

١. التوزيع في ظل الرأسمالية

في المجتمع الرأسمالي، تُوزّع السلع والخدمات من خلال الأفراد والشركات التجارية في سوق تنافسية. نظريًا، تضمن المنافسة عدم امتلاك أيٍّ من الطرفين قوة تفاوضية غير عادلة، كما تسمح الحرية الاقتصادية لكلا الطرفين بالحصول على ما يحتاجانه من خلال التبادل. يجادل الاشتراكيون بأن قوة التفاوض المتساوية مجرد وهم، إذ يُعطي هذا النظام في الواقع امتيازات لمن يملكون وسائل الإنتاج، أو رأس المال: المصانع والأراضي وغيرها من الأشياء التي يستخدمها العمل لإنتاج السلع. عمليًا، يُبرّر هذا النظام استغلال العمال الذين يُحوّلون بشكل متزايد إلى مجرد "تروس" في آلة الربح الرأسمالية.

٢. منتقدو الرأسمالية

طرح الاشتراكي الطوباوي الفرنسي هنري دي سان سيمون (١٧٦٠-١٨٢٥) بديلًا للرأسمالية يتمحور حول قيادة الخبراء لتخطيط الاقتصاد لتلبية احتياجات الجميع. دعا أتباع سان سيمون إلى مبدأ العدالة التوزيعية - أو توزيع السلع والخدمات - الذي ألهم ماركس: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب عمله". أي أنه ينبغي على كل فرد أن يُسهم في خدمة المجتمع بأفضل ما لديه من قدرات، وألا يعمل أكثر مما يُناسب صحته العقلية والجسدية والاجتماعية. مع ذلك، يجب أن يُبنى التعويض عن هذا العمل على الجهد المبذول، وليس على أسعار السوق. قام الاشتراكي الفرنسي لويس بلان (1811-1882) بتعديل الشعار ليصبح: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته". وكما هو الحال مع شعار سان سيمون، يتمتع الجميع بحرية السعي وراء مواهبهم وإثراء أنفسهم. لكن عبارة "لكلٍّ حسب حاجته" تعني أن التوزيع سيعكس احتياجات الفرد، وليس مدى اجتهاده في العمل.

٣. التأثير على ماركس

استشهد ماركس بشعاري بلانك وسان سيمون في كتابه "نقد برنامج غوتا"، وهو نقدٌ لبرنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام ١٨٧٥. ورغم تأثر البرنامج بأفكار ماركس، إلا أنه انحرف عن تفكيره في جوانب مهمة: إذ ركّز خطأً على التوزيع العادل للسلع والخدمات فقط، دون كيفية إنتاجها. لا ينبغي للعمال أن يحصلوا على تعويضات أفضل فحسب، بل ينبغي أن يمتلكوا وسائل الإنتاج ويتحكموا بها بأنفسهم، لمصلحة البشرية. وبتأكيده على إنتاج السلع، أخذ ماركس على محمل الجدّ جانب الشعار الذي شاركه فيه سان سيمون وبلان، والذي يُركّز على الإنتاج. واعتقد ماركس أن كل شعار سيجد مكانه في رؤيته للمجتمع الاشتراكي.

٤. المرحلة الدنيا من الشيوعية عند ماركس

يقترح ماركس مرحلتين للشيوعية. جادل بأن هاتين المرحلتين ستنشأن حتمًا نتيجةً للأزمات الاقتصادية في الرأسمالية وتنامي الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. تُنظّم المرحلة الأولى، كما في شعار سان سيمون، حيث يتقاضى العمال أجورًا تتناسب مع طول العمل وصعوبته. تبدو هذه المرحلة مساواتية ظاهريًا، إذ تُمنح أجور متساوية لجهد متساوٍ. لكن ماركس يُشير إلى خلل في صياغة سان سيمون، نظرًا لاختلاف احتياجات الناس :هذا الحق المتساوي هو حق غير متساوٍ لعمل غير متساوٍ. فهو لا يعترف بأي فروق طبقية، لأن كل فرد عاملٌ كغيره؛ ولكنه يعترف ضمنيًا بعدم تكافؤ المواهب الفردية، وبالتالي القدرة الإنتاجية، كميزة طبيعية. لذا، فهو حقٌّ في عدم المساواة، في مضمونه... كما يجادل ماركس بأن هذه "المساواة" الظاهرية تُخفي فرديتنا بطريقة غير مساواتية في جوهرها. الأم لديها فمان لإطعامهما، وقد لا يتمكن الشخص ذو الإعاقة من العمل لفترة طويلة، وهكذا، لذا فإن الأجر المتساوي مقابل الجهد المتساوي سيظل غير متكافئ.

5. المرحلة العليا من الشيوعية

في المرحلة الثانية من الشيوعية، يُنظّم المجتمع وفقًا لمبدأ بلانك: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!". تُحقق هذه المرحلة المساواة الكاملة حيث تُلبى احتياجات الجميع ويمكنهم تطوير مواهبهم بحرية. كما يعمل الناس وفقًا لقدراتهم: فالعمل ليس ضروريًا فقط لاستدامة المجتمع، بل هو جزء مما يجعلنا بشرًا. وبفضل زيادة الإنتاجية وتنظيم العمل وفقًا لأهداف العمال، يمكن تلبية الاحتياجات دون أيام عمل شاقة. وهذا يتيح أيضًا وقت فراغ لتطوير أنفسهم واحتياجاتهم التي تتجاوز مجرد البقاء على قيد الحياة - مثل الرغبة في الموسيقى والفن والفلسفة والعلوم وما إلى ذلك. كما يُعوّض الناس وفقًا لاحتياجاتهم: فالتعويض لا يعتمد على الجهد، بل على ما هو مطلوب منهم للازدهار. يتطلب هذا التغلب على التحيزات حول المهن الأكثر قيمة؛ يجب على المجتمع أن يتغلب على هرمية العمل الذهني على العمل البدني وجميع التسلسلات الهرمية المماثلة الأخرى ضمن تقسيم العمل. قد يقلق البعض بشأن استعداد الناس للعمل فقط من أجل إعادة توزيع ثمار عملهم على أولئك الذين لم يبذلوا جهدًا كبيرًا. يقول ماركس إن الناس سيتحملون طواعيةً بعض المسؤولية الاجتماعية، بالطريقة التي نتشارك بها الأعمال المنزلية والبستنة ورعاية الأطفال. قد يبدو هذا ساذجًا، ولم يحدد ماركس ما إذا كان سيتم فرضه أو تشجيعه أو كيفية تطبيقه. ولكن في النهاية سيعمل الناس طواعيةً لأن العمل هو مصدر تحقيق الذات. اعتقد ماركس أن الطبيعة البشرية تجد أعظم تحقيق لها في العمل الاجتماعي، لكن الرأسمالية حوّلت العمل إلى عبء. وذلك لأن العمل في ظل الرأسمالية منظم حول أهداف الربح، وليس احتياجات العمال أو البشرية بشكل عام. عندما نفخر بتسخير قدراتنا لتلبية احتياجات الناس، يصبح العمل رغبةً من رغباتنا بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة للبقاء.

خاتمة

تزعم نظرية ماركس للتاريخ تحديد سمات هيكلية وتنموية مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية، تنبع من حاجتها إلى توظيف قدراتها التكنولوجية لانتزاع لقمة العيش من بيئاتها المادية. وبينما ترفض هذه النظرية فكرة أن مسار التاريخ مُحدد مسبقًا، فإنها ترى تطورًا طويل الأمد للأشكال المجتمعية نحو زيادة القدرة التكنولوجية على التحكم في هذا "التفاعل" مع الطبيعة. مهما كانت مزايا تنبؤات ماركس حول الرأسمالية، فإن المادية التاريخية، كنظرية أعم للتاريخ، لا يمكنها أن تتنبأ بمستقبل ما بعد الرأسمالية بأي قدر من اليقين - مع أنها قد تُساعد في فهم كيف وصلنا، على مدار التاريخ الطويل، إلى ما نحن عليه الآن.

قد يجد المرء إلهامًا كبيرًا في فكرة أن الرضا الحقيقي يمكن أن يأتي من العمل الإبداعي والهادف. ومع ذلك، فإن تجربة معظم الناس الفعلية في العمل في الاقتصادات الرأسمالية تتميز بالملل واللامبالاة والإرهاق. وتقدم نظرية ماركس في الاغتراب إطارًا مفاهيميًا لفهم طبيعة هذه التجارب وأسبابها، وتؤكد لنا أن هذه التجارب الذاتية تتعلق بواقع موضوعي - والأهم من ذلك، واقع يمكننا تغييره. يُعدّ شعار ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" مبدأً من مبادئ التنظيم الاجتماعي، حيث يكون العمل بناءً ومرغوبًا فيه، ونعتبر فيه احتياجات الآخرين احتياجاتنا. وبالتالي، رأى ماركس أن هذا مجتمعٌ مُحرَّرٌ من الاستغلال، واللاإنسانية، والهيمنة. فهل تكفي القوة الاجتماعية للعمال لإحداث التغيير الاجتماعي الأممي؟

كاتب فلسفي

 

تمهيد
ساهم يورغن هابرماس، من مواليد 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، من بين جيل الشباب من الفلاسفة الألمان، بطريقة مبتكرة في تجديد التفكير النقدي. وقد فتح نفوذها الحالي، المهيمن في ألمانيا، نقاشا دوليا واسعا. تغذى على قراءات كانط وهيجل وماركس، التي شكلتها أفكار هوركهايمر وأدورنو وماركوز، ولا يدين بشهرته فقط لإقامته في فرانكفورت (كان مساعدًا في معهد البحوث الاجتماعية من 1955 إلى 1959، وأستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع من 1964 إلى 1971، بعد أن بدأ مسيرته التعليمية في هايدلبرغ في عام 1961). في الواقع، وبفضل تدخلاته النقدية في العلوم الإنسانية الرئيسية، لم يكتف هابرماس بالتشكيك في الروح الوضعية والوعي التكنوقراطي الذي يهيمن عليها، ولكنه أيضًا أثرى فكره بشكل كبير. وبهذه الطريقة وضع "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت على مستوى آخر، مواجهًا تحديًا مزدوجًا: عدم التخلي عن الإلهام الماركسي أثناء ممارسة التحريفية المؤكدة؛ وهي تحرير النظرية النقدية من دينها المعرفي مع الاحتفاظ ببعدها التحرري. يعارض هابرماس تفكير أدورنو السلبي حصريًا من خلال التخلي اليوم عن النقد لصالح العمل البناء والمنهجي. لكنه أقرب إلى هوركهايمر وأدورنو إلى الحد الذي تناول فيه بدوره المشكلة التي ميزت النظرية النقدية لمدة أربعين عاما والتي تصل إلى حد التساؤل عن كيفية توضيح العلاقة بين النظرية والممارسة مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة للرأسمالية المتقدمة. وقد خصص سلسلة من الدراسات لهذا السؤال: النظرية والتطبيق ( 1963)، حيث ينتقد، في الفلسفة الاجتماعية كما تطورت منذ هوبز، إلغاء بُعد التطبيق العملي (بالمعنى الأرسطي) لصالح التفكير التكنولوجي. علاوة على ذلك، يمكننا أن نعتبر عمله بأكمله بمثابة انعكاس لهذه المشكلة، وذلك في ثلاثة جوانب مختلفة. أولاً، يتم فحص "الجانب التجريبي" للعلاقات بين السياسة والعلم والرأي العام في الرأسمالية المتقدمة: 1968 (التكنولوجيا والعلم كأيديولوجية). ثم يتم تحليل "الجانب المعرفي" للروابط الموجودة بين المعرفة والمصالح المهيمنة: "المعرفة والمصلحة" ( 1968)، وهو عمل تاريخي ومنهجي في نفس الوقت، يطور البرنامج المعرفي للفيلسوف. وأخيرا، يتم تناول "الجانب المنهجي للنظرية الاجتماعية الذي يجب أن يكون قادرا على القيام بدور النقدي". يعتبر هابرماس عمله بأكمله، غنيًا جدًا بالفعل، على أنه يتكون فقط من سلسلة من المقدمات وأعماله العديدة التي تشير إلى العديد من المراحل الأولية لنظرية الفعل التواصلي ( 1989). ويستمر هذا التفكير في كتابي "الأخلاق والتواصل" (1983) وفي "أخلاقيات المناقشة" (1991). كان في البداية قريبًا من قادة الحركة الطلابية، واعتبر أحد مرشديهم، وأصبح منذ عام 1967 خصمًا سياسيًا لهم من خلال الدعوة إلى "الإصلاحية الراديكالية" ( 1969). وبشكل ملموس، فهو يناضل من أجل إعادة تأسيس الرأي العام الديمقراطي والنقدي. وبعد تعرضه للانتقادات بدوره، غادر فرانكفورت في عام 1971، وقبل منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبرغ في بافاريا. ثم عاد إلى الجامعة الألمانية في فرانكفورت عام 1983. فماهو تقييمه للاتصال التقني المعاصر؟ كيف عمل في مشروعه العقلاني الكوني على نقده؟ وماهي شروط امكان التواصل الانساني في عصر التقدم التكنولوجي المتسارع؟

تمهيد
" إن الدين يحرر الإنسانية حقا لأنه يحرر الإنسان من الشبهات التي قد تسممه إذا تذكر الأزمة كما حدثت بالفعل"
تم تعريف عمل رينيه جيرار (1923 - 2015) من قبل ناشره بأنه "مقال جريء ومؤثر"، ومن المرجح أن يتم التعامل معه، بعبارات أقل رضا عن الذات، باعتباره طموحًا مفرطًا، لأنه يعلن عن مشروع "إعطاء الدين أصلًا حقيقيًا" وبالتالي إظهار "وحدة جميع الطقوس". مشروع، في هذه المرحلة من الثقافة الأنثروبولوجية، لن يكون له من حيث المبدأ أي شيء غير عملي، لو كانت الجرأة الفكرية للمؤلف متناسبة مع الطموح الذي يعبر عنه. ومع ذلك، على الرغم من مظهره القتالي والمتمرد عن طيب خاطر، لم يجد جيرار الشجاعة الأولية لرفض الأساليب القديمة للأنثروبولوجيا التي يدينها مع ذلك، وصياغة الأدوات المناسبة لإنجاز المهمة، في الحقيقة النبيلة جدًا، التي كلفه بها. وفي الوقت الذي كانت فيه الوظيفية موضع تساؤل في بلده الأصلي من قبل أولئك الذين كانوا يطالبون بها حتى الآن، أسس جيرار نظريته، التي دافع عنها بحماسة غير عادية، على البديهية القائلة بأن مؤسسات الشعوب البدائية هي جميعها آليات تهدف إلى الحفاظ على التوازن والحفاظ على الوضع الراهن. إنه من علم الأعراق المستوحى من "التمني" للمسؤولين الاستعماريين الذين يطاردهم الخوف من رؤية النظام معطلاً، وهو يستمد مفهومه للتضحية كعمل يهدف إلى استعادة الانسجام في المجتمع وتعزيز الوحدة الاجتماعية. يكتب: "كل شيء آخر يتدفق من هناك". بالفعل إن الاستجابة الوظيفية للمشكلة الثقافية التي تطرحها التضحية تترك بالضرورة في الغموض محتوى الفكر الذي يؤسس لتضحية المبعوث وكذلك أي طقس آخر. فماذا سيحدث بعد ذلك لرغبة المؤلف في التفسير؟ بين التضحية التي يُنظر إليها كرد فعل تلقائي على العنف، والعنف الأكثر عمومية الذي يتخذ أي شكل من الأشكال، إلى حد التماهي مع المقدس، فإن خصوصية السياق الثقافي هي التي تضيع، على الرغم من التصريحات المتكررة حول خصوصية الثقافي. ومن ثم فإن هناك فجوة بين الأهداف التي يضعها المؤلف لنفسه والوسائل التي منحها لنفسه. على خلاف منذ البداية - لأنه هل يمكننا أن نهدف إلى مشروع مادي دون الاحتراز من الوقوع في المثالية النموذجية؟ ويجب عليه أن يعوض باستمرار عن أوجه القصور المفاهيمية بحجج تهدف إلى تعزيز فرضية العنف المؤسسي والضحية الهاربة، وباللجوء إلى زخارف جديدة تكون بمثابة أمثلة توضيحية. من هناك، وتيرة الكتاب المتهورة، ولكن المتسرعة، ووفرته، وتألقه، مما يجعل القراءة آسرة دائمًا ولكنها مخيبة للآمال دائمًا. هذا هو نفس نوع "التأمل غير الواقعي" الذي استنكره المؤلف منذ صفحاته الأولى، وهو تأمل "غير واقعي" في المشكلات التي اختار دراستها والتي لا يمكن أن تقوم إلا على تعميق الحقائق القربانية البدئية. ومع ذلك، وعلى الرغم من كثرة الأمثلة على ذلك العرق. كان من الممكن أن يعرض عليه ذلك، فدراستهم تكاد تكون معدومة؛ ومن بين الحالات الكلاسيكية أو العبرية القليلة المذكورة، فإن بعضها يعتبر "تضحيات" فقط من خلال إضافاته، مثل حيل يعقوب وأوليسيس. هذه اللامبالاة تجاه علم الأعراق ليست نتيجة للصدفة، أو الإهمال الشخصي. إنه مرتبط بحالة الأزمة في هذا التخصص، وهي الحالة التي يأسف جيرار، مثل كثيرين آخرين، لآثارها بينما يساعد في إدامة أسبابها. ويرجع ذلك إلى مختلف المنهجيات السائدة، رغم أنها في حالة تراجع، والتي تشترك في أنها تشكل الكثير من الهروب من التناقض الزمني، أي خارج الواقع، وبالتالي تمنع المرء من وضع نفسه داخل محور التفسير. ومهما كانت اعتبارات المؤلف بشأن المأساة اليونانية مثيرة للاهتمام، فإنها لا تعوض عن اللامبالاة بالحقائق التي سبقت ظهورها في التاريخ. إن التأكيد على أن “المأساة توفر طريقًا مميزًا للوصول إلى المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية" لا يجد محتوى الحقيقة إلا عندما يتم عكسه: " إن الطريق المميز للوصول إلى فهم المآسي اليونانية يمر عبر حل المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية".فالعنف هو القمع المستمر لمجتمعنا، في حين أن كل مجتمع يتأثر بقوة عنف داخلية". لكن ماذا يقول رينيه جيرار في «العنف والمقدس»؟

آخر الأنشطة الثقافية والعلمية

  • المهرجان الدولي العاشر للقصة القصيرة بخنيفرة يكرم القاص محمد العتروس - رشيد الكامل
    المهرجان الدولي العاشر للقصة القصيرة بخنيفرة يكرم القاص محمد العتروس - رشيد الكامل وسط جمهور نوعي من مختلف الأعمار والأجناس وحضور ملفت لمبدعين مغاربة وعرب، احتفت جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة، في الدورة العاشرة للمهرجان الدولي للقصة القصيرة بالكاتب والقاص محمد العتروس.فعاليات المهرجان الدولي العاشرة للقصة القصيرة، التي انعقدت أيام 27 و28 و29 دجنبر الماضي، بالمركز الثقافي أبو القاسم الزياني، تحت شعار" الهوية والذات في السرد العربي"، عرفت في بدايتها إلقاء كلمات المنظمين كانت أبرزها كلمة رئيس جمعية الأنصار للثقافة عزيز ملوكي ، بعد ذلك تم عرض شريط وثائقي يؤرخ لمسيرة المبدع محمد العتروس، الذي قيلت في حقه شهادات من طرف كل من الكاتب حسن إغلان، والقاص المصطفى اجماع، والقاص عبد الواحد كفيح.وكانت الفقرة التي انتظرها الحاضرون، هي لحظة تكريم الكاتب والقاص محمد لعتروس الذي تسلم درع التكريم وزربية محلية وشهادة تقديرية ولوحات تشكيلية…