أ- الدلالات اللغوية والاصطلاحية:
لم تظهر لفظة بيكاريسكاPICARESCA باعتبارها لفظة إسبانية إلا في نهاية الربع الأول من القرن السادس عشر، قبيل ظهور الرواية الشطارية الأولى في الأدب الإسباني للروائي المجهول ألا وهي:La vida de Lazarillo de Tormes y sus fortunas y adversidad[1]( حياة لاثاريو دي طورميس وحظوظه ومحنه).
وتدل هذه اللفظة على جنس أدبي جديد تشكل في إسبانيا لأول مرة. ثم، انتقل بعد ذلك إلى فرنسا وألمانيا وانجلترا وأمريكا. و تعني هذه الرواية ذلك المتن السردي الذي يرصد حياة البيكارو أو الشطاري المهمش؛ لذلك تنسب هذه الرواية إلى بطلها بيكاروPicaro ) الشاطر) أو(المغامر) الذي يقول عنه قاموس الأكاديمية الإسبانية:" نموذج شخصية خالعة و حذرة وشيطانية وهزلية، تحيا حياة غير هنيئة كما تبدو في عيون المؤلفات الأدبية الإسبانية"، أو أنه:" بطل مغامر شطاري مهمش صعلوك محتال ومتسول"[2]. وتعتقد الأكاديمية الإسبانية أن لفظةPicaro مشتقة من فعلPicar في معناه الشعبي المجازي، وهو الارتحال والصيد واللسع.
وتعني picaresque في اللغة الفرنسية الأعمال التي تصف الفقراء والمعوزين والمعدمين والصعالكة والمتسولين والأنذال أو قيم المتشردين والمحتالين واللصوص في القرون الوسطى.
والبيكارو باعتباره بطل الرواية البيكارسكية ليس بمقترف جرائم في معنى الجرائم الحقيقي، ولكنه ينتمي إلى طائفة المتسولين، لايبالي كثيرا بالقيم ومسائل الأخلاق مادام الواقع الذي يعيش فيه منحطا وزائفا في قيمه، يسوده النفاق والظلم والاستبداد والاحتيال حتى من قبل الشرفاء والقساوسة والنبلاء ومدعي الإيمان والكرم والثراء. وما همّ البيكارو سوى البحث عن لقمة الخبز ورزق العيش، لذلك فهو في حياته مزدوج الشخصية، جاد في أقواله ونصائحه ومعتقداته، وذكي يتكلم بالنصائح، ويتفوه بإيمان العقيدة، ولكنه في نفس الوقت، يسخر من قيم المجتمع وعاداته وأعرافه المبنية على النفاق والهراء. ويأنف البيكارو من اتخاذ عمل منتظم لرزقه، بل يتسكع في الشوارع ويتصعلك بطريقة بوهيمية وجوديية وعبثية، يقتنص فرص الاحتيال والحب والغرام، منتقلا من شغل إلى آخر كصعلوك مدقع يرفضه القانون وسنة الحياة والعمل، يفضل الارتحال و الكسل والبطالة. وعلى الرغم من كل هذا، يحصل على المال لاباغتصابه ، بل بالحيل والذكاء واستعمال المقدرة اللغوية والحيل والمراوغة وفصاحة اللسان وبلاغة البيان والأدب. ويجعل الناس يقبلون عليه بسلوكياته ومواقفه ويرغبون في مصاحبته ومعاشرته إشفاقا عليه وعطفا واستطرافا.[3]
أيها الجذع الذي شحذنا عليه المناقير, وداعا - د : حبيب بولس

"العالم" ركيزة أساسية وعمود شامخ طالما شحذنا عليه المناقير في بداية حياتنا الأدبية وخلال مسيرتها الشاقة, قد أنار أحداقنا بما لديه من قدرة تنظيرية وتحليلية سليمة وبما قدمه من رؤى ثورية صحيحة خاصة في مجال الأدب التخييلي- القصة الرواية\ المسرحية- وكل ذلك بلغة بسيطة تخلو من البهرجة والتقعر والتعقيد- آفة المنظرين عادة- حيث يقدم منظوره بلا مكيجة ولا أصباغ- وبلا لف أو دوران, يشدك إليه بكلمات دافقة دافئة مأنوسة يجعلها رافعة لتتبناها أو على الأقل لتتفق معه في الكثير الكثير من الطروحات.
كانت طلقة العالم النقدية الأولى عام (1955), حين أصدر مع صديقه عبد العظيم أنيس كتاب في الثقافة المصرية, الكتاب الذي جاء لينقد النظريات الغائمة والغيبية والضبابية وليجذر ويؤصل لمذهب جديد في النقد ينسف ما سبق أو ما درجنا عليه بعد الحرب الثانية. ففي تلك السنوات دخل العالم العربي في صراع ثقافي أدبي وفكري, واحتدمت الساحة بالعديد من المعارك, ومرت بالكثير من الاجتهادات, واختلطت الطروحات والتيارات, وتنوعت وجهات النظر, وتأرجح النقد والتقويم الأدبي بين مذاهب ومدارس عديدة مستنسخة عن أوروبا, وتمحور العراك الأدبي بين بنيوية ووجودية وجمالية, ومتيا فيزيقية, وإنسانية, ورومانسية, فظهرت أصوات كثيرة تنادي بإتباع هذا المذهب أو ذاك, وتشيّع الأدباء وانقسموا, الأمر الذي جعل الأديب والقارئ يحاران معا ويلتبس عليهم, بسبب هذا الخلط بحيث ما عاد بالمقدور مواكبة هذا الكم الوافد والمزيج الغريب الهجين, إلى أن جاء كتاب في الثقافة المصرية, فرجّ ساحة الأدب والثقافة بطروحاته الجريئة المبنية على الأسس الواقعية الداعية إلى تبني المذهب والمنهج الواقعي مسفهة كل ما هو خارج عن الدلالة الاجتماعية, وكل ما يعزل النص الأدبي عن سياقه الاجتماعي والتاريخي والثقافي والإنساني, هذا الكتاب الذي حدد الأمور وفرزها ووضعها في نصابها الصحيح, جوبه في حينه بعاصفة من النقد والاتهامات, بدعوى أن صاحبيه يدعوان إلى تغليب الأدب والى تغليب المضمون والسياق السياسي الاجتماعي على النقد الأدبي الذي كان هو نفسه آنذاك فصيلا من فصائل الصراع الأيديولوجي.