ينعطف الباص يمينًا، يخرج عن مساره الإسفلتي إلى أقصى ما يمكن ليستقر فوق الرمال الصلبة على جانب الطريق بالقرب من مدينة عسقلان جنوب فلسطين المحتلة، لحدوث عطل فيه أثناء عودته من القدس، متوجهًا إلى قطاع غزة، ويسمح للركاب بالخروج والجلوس حوله إلى حين حضور فريق الصيانة.
يتكئ الحاج الستيني أبو صالح بجوار سياج يدور قريبًا من المدخل الشرقي لقريته التي هُجر منها، وهو دون العاشرة من العمر، تنقر رأسه أفكار مجنونة يدفعها بقدميه، فمجازفة كهذه قد تكلفه حياته إذا شاهده أحد قطعان المستوطنين، ولن يكفيه عمره خلف قضبان السجن لو صادفته قوة من الجيش الإسرائيلي، وقد كان كل ما يحلم به عند مغادرته قطاع غزة صلاة ركعتين في المسجد الأقصى لا الموت خلف قضبان السجن.
عندما سرقت الفتاة الكون ـ قصة : علي لطيف
الموت لا معنى له. الحياة لا معنى لها. عندما تولد يكون ذلك خارج إرادتك. عندما تموت يكون ذلك خارج إرادتك. مابين الولادة والموت يوجد شيء ما غير مفهوم. لا يمكن فهمه. يُسمونها الحياة، إلا أن لا أحد يعلم ما الغرض الحقيقي منها.
"ما الغرض من هذا؟" سألها ذات ليلة.
لم تجبه. لا تعرف بما يمكنها الرد. كان غريباً. ظنت أنه كان مثلها. تجاوز هذا السؤال منذ مدة طويلة. لطالما أحبت الغرباء، صديقاتها سخرن منها بسبب ذلك، لكنها ظلت تحب الغرباء، كانوا يجعلونها تشعر أنها ليست وحيدة.
هو عشيقها منذ سنتين. أخبرها أنه قاتل في الحرب. أنه قتل. بكى على صدرها. بكت هي أيضاً، ليس لسبب إلا أن مظهره ذكرها بأخيها الصغير الذي مات في حادث سيارة منذ أكثر من عشرة سنوات. بقي على سرير المستشفى لأيام، رأته مرتين. كان ميتاً، أخبرهم الأطباء بذلك لكن أمها لم تصدق.
عزف منفرد ـ نص : رشيد بلفقيه
دو .. صو .. فا .
أن تعيش متنقلا بين الكلمات مختبرا تباثها و هي تغير أرديتها حسب السياقات فهذا معنى آخر للتشظي الحقيقي.
قافزا إلى الخلف مبتعدا لأسطر عن الورقة خيارك الوحيد.. عندما يلسعك بياضها.
تعلن في سرك ،أنك حزمة انتظارات
و أحلام لا تعرف التحقق و لا التوقف
و أنك أرض في الستين من عجزها، لكنها لازالت تجهل كيف تتعاقب الفصول ..
وحدها الكلمات تمنح هذا الاستثناء لمن يجيد افتراشها على أرضية قاحلة ..
صهيل الكلمات ـ قصة : نجاة هاشمي
يعلو مرتفعا كصقر يراوغ الريح، لينحدر متكسرا كجبل جليد، منحنيا كجدول ماء، هادرا كالهزيم خافتا كهمس الزهور، حانيا كناي يُغازل العمر، ثائرا كأزيز الرصاص، تخال الكلمات تصهل في حنجرته.
اشرأبت مشدوهة منبهرة بذاك الانسجام بينهما، محتارة أيهما ينفخ الروح في الآخر! ولكنها استسلمت في رضى لأنغام البحر، ولم تأبه أين سترسو سفينتها.
كان واقفا كنخلة تتحدى في شموخها السماء، أراد أن يُثبت لنفسه قبل الآخرين أن الكلمات التي اختارته ليصبح صوتها لم تخطئ، وأنه شاعر -وإن كان في أمسيته الأولى- جدير بترويض الحروف، وزرعها حلما شهيا في المُهج.
لم تره قبلا، ولم يرها بعد، فالجميع أمام ناظريه غيمات نزلت لترتاح من سفرها وستكمل الطريق.
~~~~~~~~~~~~
لـوحــة.. ـ قصة : عبد المطلب عبد الهادي
على الجانب الأيسر من اللوحة التي يغطيها السواد .. وقف "حنظلة" ويداه معقوفتان وراء ظهره ينظر إلى الأفق المظلم الممتد أمامه بلا حدود..
سواد كليل لا قمر في سمائه.. أشباح تجوس خلال الحدود تحمل حقائب أتعبها الترحال تضم بؤس المتاع .. حيرة على شواطئ دول تشتهيها الموت..
أوطان بألوان باهتة تمتد على كف عفريت بحدودٍ كأنها الهاوية..
من هذا الذي على رمل الغربة مرَّغ خده الطري ؟
من ذاك الذي بلون الموت.. والهجرة والمنافي والشتات.. يحمل وطنه في قلبه ويسافر ؟
وردة الجبل وفارس النور ـ قصة : مصطفى حمودة
لو كان القمر على علمٍ بما يخبّؤه له القدر، ما برح قمة الجبل الأبيض، وما فاته مولد أجمل كائن على وجه الأرض.......
أدبر آخر ليلٍ شتوي، وتنفّس الصباح إيذاناً بميلاد شمس أول يوم ربيعي. فتحت الشمس عينيها على حلةٍ بيضاء تكسو قمّة الجبل الشامخ، الذي استقبلها بحفاوة، استبدلت على إثر الشمس المشرقة حزناً في تلك اللحظة البارقة، التي ذاب فيها الثلج، وأخذ ما ذاب منه ينحدر من سفح الجبل نحو الأسفل، لتتطلع له بنظراتٍ جد آسفة وخجولة.
فهي لم تجيء لهذا المكان لتسلبه ثوبه الأبيض الناصع الجميل، لأن ذلك خارج عن إرادتها، فهي غير قادرةً على أن تمنع دفء نورها الذي سيهب الحياة إلى البسيطة، بعد سبات طويل. ومع ذلك طمأنته ووعدته، بأنّها ستهبه الاخضرار، ووهبته. وستجعل منه قبلة الباحثين عن الجمال الرباني، وجعلته.
شواهد ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى
لم يكن يعرف أين يمضي، فهو يسير دون وجهة، الهموم تلاحقه، والمآسي تداهمه، الأفكار تتضارب في رأسه، والأحاسيس تتناقض. مشاعره تترجرج، تتزحزح من مجهول إلى مجهول، هو يشعر بالغضب، بالنقمة، بالصغر، بالإهانة، بالكآبة، أحس بأنه شارف على الانهيار، بينه وبين الانهيار حافة بسيطة غير متماسكة تستعد هي الأخرى للسقوط نحو الهاوية.
حاول جاهداً وبكل ما يملك، بل وبكل ما تبقى في ذاته أن يرمم انفعالاته، أن يلصقها، لكنه كان يحاول مناقضا لحقيقته، فأدرك مرة واحدة أنه لا مخرج له مما هو فيه.
صدمته المفاجأة، حدق بكل قوته، ليس معقولاً، بل وغير مستوعب ما رآه، ففي اللحظة التي كان يفكر فيها بترميم ما يمكن ترميمه وجد نفسه في مواجهة الموت، دخل أرضه دون أن يعرف ذلك، شواهد القبور متراصة، والنباتات الشائكة، البصلون، العشب الملوح من شدة الحرارة، والغبار الذي تحمله نسمات هواء عابرة يقفز نحو العيون فيلتصق بالوجه بفعل تمازجه مع العرق، التشققات المفسخة للقبور بأشكال عشوائية تدفع رعشات خفيفة تحت الجلد كدفق تيار كهربائي يعذب ويضني، لكنه لا يقتل، انتفض مع تزايد قوة الرعشة انتفاضة سريعة في ذات اللحظة التي كان يتحسس فيها جلده بكلتا يديه، قويت الرعشة في جسده، فأحس بان مخلوقا غريبا يجول تحت الجلد بسرعة عشوائية خارجة عن السيطرة، بدأ يحك جسده بقوة وتلاحق، وينتقل من عضو لعضو، لكنه بعد لحظات أوقف دفاعه واستسلم.
تحت سماء طهران ـ قصة : زينب عقيل
انها الغرفة 519 في فندق "لاله" الدولي، ذات النافذة المطلة على اشجار حديقة "لاله" العالية، تدخل منها رائحة أديم الأرض، عبر ريح ربيعية محملة بقطرات مطر، تتكثف مع رائحة القهوة اللبنانية التركية التي أعددتها خصيصًا لجلسة مع سماء طهران الماطرة. سماء تلك المدينة التي أهدتني مطرًا قبل رحيلي عنها.
جلست على الكنبة ويد النسمات الباردة تخصل شعري، ارتشف قهوتي العذراء، عذراء الصباح الصامت الا من صوت الغربان القادم من الحديقة. الحديقة التي أدمنتها شهرًا كاملًا وصارت لي فيها ذكريات. قررت أن أكتب إحداها في ذلك الصباح، وأشارك أوراقي قهوة، فقهوة أوراقي الحبر، وقهوة روحي الكتابة في صباح يوم ماطر.
كانت آخر أيام شتاء طهران العام 2014. خرجت الى حديقة "لاله" ظهرًا، في محاولة لتهدئة نهمٍ للجلوس في الطبيعة، وككل الصحافيين لم أكن لأخرج من دون كاميرا لتوثيق كل اللحظات، اذ يحدث للصحافي أن يوثّق ذكرياته أيضًا.
عند مدخل الحديقة طالعتني مجموعة من القطط، كانت عشرة أو أكثر، متحلقة حول امرأة بدت متسولة. كانت ترمي لهم قطع المرتديلا؛ الى جنبها البعيد بقايا وجبة، أولمت عليها الغربان.