
ليس من السهل أبداً تعقب ابن خلدون في كتاباته قصد الإمساك على موضوعة من الموضوعات التي عالجها في إطار رؤية معرفية شاملة. ذلك أن ابن خلدون إنما ينهج في مقارباته التحليلية إلى ضرب من الرؤى الكلية التي تجمع الأشتات إلى بعضها بعض قصد تأليف حقيقة معاينة. ومن ثم فالرؤية الحضارية التي باشرها ابن خلدون لم تكن لتكتب فصلاً في التاريخ وآخر في السياسة، وثالثاً في الدين... وإنما الهم في رؤية ابن خلدون أن يأتي كل ذلك في نسق معرفي واحد، يبدأ بالتفكير المجرد لينتهي إلى التسجيل المحايث للتجارب التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية.
تلك هي الخاصية التي أردت التوقف عندها في معالجتي للكتابة الدينية عند ابن خلدون، باعتباره شاهداً على العصر. غير أنني ـ وقد أكون بعيداً عن المتعارف عليه في شأن الرجل ومنهجيته ـ أقدم فهماً خاصاً، يتفصد عن قراءة متأنية للمقدمة على وجه الخصوص. ومنه أكون طرفاً في الدلالة التي أرادها لمنهجه وكتاباته. وليس أمامي إلا النص أنقض غزله لأصل إلى الوجه الديني في الطرح الخلدوني للشهادة.
2 ـ هندسة المقدمة:
إن المتصفح لكتب التاريخ العربي التي صنفت قبل ابن خلدون، يلحظ ظاهرة لا تخطئها العين أبداً... فكل مصنف إنما يبدأ من البداية الأولى، ثم يتدرج من بدء الخليقة إلى أيام الناس زمن التحرير، وكأن الكتابة التاريخية إنما هي من قبيل استحصاد القائم في الذاكرة من أخبار وقصص وروايات، سواء تأسست أخبارها على مصادر يقينية ثبتة، أو كانت مجرد أساطير تتدفأ بها الذاكرة القومية في مجالس السمر والحكايات.
غير أن هذه الملاحظة لا يمكن لها أن تنتقص من قيمة المرويات ونصوصها، أو تشكك في مصادرها، لأنها استندت في كثير من رواياتها إلى أحاديث صحيحة... ولكن الشك يقع على الأخبار التي استقاها المؤرخون من مصادر شفاهية تقوم مادتها على الرواية وحسب. كما عمد المؤرخون كذلك إلى نظام السنوات، يروون لكل سنة حوادثها الكبرى التي أثرت في واقع الناس، وحولت وجهة الأحداث من طرف إلى آخر.
لم تسعف وفرة المادة التاريخية وتداخل رواياتها المؤرخ ليقف منها موقف المتفحص المتأمل، ولم يمهله طول الكتاب وضخامته ليقف منه موقف الناقد. وربما استلذ المؤرخ توارد الأخبار وتتاليها فاستنام لهدهدتها وغرابتها، وفوَّت على نفسه فرص الاستفاقة لها ومراجعتها..